Monday, August 11, 2008

الى أمي


أنت الوحيدة في هذا العالم الذي أكتب لها كلاما وأتمنى ألا تراه ولا تقرأه
فكلام الدنيا كله ومهما قلت وقال غيري لن يوفيك حقك
الكل يعلم مدى صعوبة الحياة بل واستحالتها أحيانا اذا تزوجت فتاة في بيت العائلة
فما بالكم لو تزوجت هذه الفتاة في شقة العائلة ؟
وما بالكم لو كانت هذه الفتاة - مثل معظم فتيات ذاك الزمان في أواسط الستينات - خرجت من بيت أبيها الى بيت زوجها دون أي خبرة خارج بيت الأب اللهم الا التعليم الابتدائي في المدرسة المجاورة
وما بالكم لو كانت الحماة في هذا البيت شديدة مثل جدتي يرحمها الله
وفوق كل هذا وذلك فالزوج قد خرج لتوه من سجون الزعيم الخالد بعد سبع سنين من الاعتقال والتعذيب والجميع يقولون لها أنه قد يرجع الى المعتقل في أي وقت
ومع ذلك صبرت وكانت أمها - جدتي لأمي - تدعمها بشدة معنويا طبعا فقد كان أبي لا يقبل أن يدخل بيت أي شيء الا من ماله حتى ولو كان هدية تهدى
وكانت جدتي ترفع عنها أي حرج قد يصيبها من جانب أسرتها أو من جانب أسرة زوجها لظروف إقامتها معهم
أما الزوج (أبي) الذي كان الجميع يهابه منذ كان في الثالثة عشر عندما أخرجه جدي من المدرسة في هذا السن المبكرة ليدير له المطبعة التي يملكها والتي هي رأسمال العائلة
وليعوضه عن ذلك ويعلي شأنه وهو في هذا السن أمام الجميع كان لا يناديه أمام الناس إلا إذا سبق اسمه بلقب (سي) وأمر جميع إخوته وأمه ألا ينادونه إلا بهذا اللقب
ويا ويل من خالف هذا الأمر طوال حياة جدي وحتى بعد موت جدي ظل الجميع بما فيهم جدتي
ينادونه بهذا اللقب رغم أنها عاشت بعد جدي ستة وعشرون عاما
هذا الزوج كبير العائلة التي كانت مكونة مثل عائلة سيدنا يوسف من أحد عشر من الإخوة والأب والأم
وظل هكذا رغم المحاولات المستميتة من البعض أن يكون كبير نفسه بعد أن صارت هذه الكارثة موضة في المجتمع يتباهى بها السفهاء أن يكون كل واحد كبير نفسه
لم يطلب والدي هذا اللقب يوما ولم يسع اليه ولم يعاتب حتى من يخرج عليه ويتركه حتى يعود بنفسه بعد أن تضيق به الدنيا ويتخلى عنه من شجعوه على هذا
يأتي الى كبير العائلة ويبكي نادما معتذرا ويقبل كبير العائلة اعتذاره وكأن شيئا لم يكن
فإذا عوتب في سرعة تقبله للاعتذار كان يقول : يعني ارمي اخواتي
ولم يرم يوما اخوته ولا أبناء إخوته ، ولو كان هذا على حساب صحته وراحته وراحة بيته وأهل بيته
وبالفعل كان ما يتبقى لزوجته ولنا بعد عمله وواجبه نحو إخوته وعائلاتهم هو أقل القليل
وبارك الله في هذا القليل فكانت أسرته مضرب المثل في الاستقرار والمحبة بين أفرادها برغم العواصف القليلة التي قابلتها
قد يستغرب حديثي السن ومن لم يصادف من في مثل هذا الموقع الاجتماعي من قبل من هذا الحديث ، بل وقد يسخر منه
ولكني أذكرهم أن السادات وبرغم أنه كان رئيسا للجمهورية كانت أقصى أمنياته -حتى أنه كان يطلبها ويلقب هو نفسه بها- أن يصبح كبيرا للعائلة المصرية .. وفشل
وحتى قبل وفاة أبي بأقل من شهر وفي وسط آلامه ومحنة مرضه ، كانوا يأتونه بمشكلاتهم رغم تفاهتها أمام مشكلته ولم يخذلهم أبدا
وقبل وفاته بيومين كانت هناك مشكلة في المطبعة التي أفنى فيها حياته كلها ، وجاء اليه عمي كما كان يفعل دائما يسأله ماذا يفعل ؟
ولأول مرة منذ بضعة وسبعين عاما لا يجد الإجابة عند كبير العائلة .. وإنما يقول له اذهب الى أخيك فلان واسأله
وأيقن الجميع عندئذ بالنهاية المحتومة والتي كتبها الله على كل الخلائق
فيا أمي
لن أجرؤ على شكرك ليقينك أن الله قادر على شفائه رغم معرفتك بوضوح بما قاله الأطباء من عدم قدرتهم حتى على علاجه لكبر سنه وعدم تحمله للعلاج
ولن أجرؤ على شكرك لوقوفك الى جانب أبي رغم طول مرضه وشدته
ولن أجرؤ على شكرك أنه مات وهو عنك راض ويدعو لك طالبا منك أن تسامحيه على أي شيء أساء اليك فيه ويطلب منك أن تضميه الى صدرك حتى بعد دخوله للعناية المركزة أراد الله أن تكوني آخر من يراه
ولن أجرؤ أن أطلب منك الدعاء له فأنا أعلم أنك لا تفعلين الآن الا الصلاة وقراءة القرآن والدعاء له
ولكني سأطلب منك أن تسامحينا نحن وأن تضمني لنا دعاءك ورضاك عنا
وأن ترضي عن كل من مات أبي وهو عنه راض
ترى هل قلت شيئا بعد؟ ومن يستطيع؟
هل لخصت في جملي الركيكة حياة امتدت لأربعة وأربعين عاما؟ ومن يستطيع؟
هل وفيتك ولو جزءا بسيطا من حقك ؟ ومن يستطيع؟
إذن ، هل تعلمون الآن لماذا تمنيت ما تمنيته في أول رسالتي الى أمي ؟

Tuesday, August 5, 2008

إنا لله وإنا اليه راجعون


مات أبي
فإنا لله وإنا اليه راجعون
ونسألكم الدعاء له