Wednesday, September 26, 2007

لُكَع بن لُكَع.. إلى أين؟ - د. توفيق الواعي



اللكع عند العرب هو اللئيم الوسخ القذر المستعبد، وهذا الصنف من الناس هو الذي يلوث المجتمعات ويصيبها بالإحباط، ويزرع فيها الخراب والظلم وعدم الاستقرار، ويطمس فيها كل معنى عظيم كما يطفئ ويريق البهجة والسعادة في محيطها الجميل، وهو مع هذا وللأسف تراه يتمتع بخبثه ويهنأ بلؤمه وقذره وانحطاطه وتبعيته، فهل تظن بعد ذلك أن دنيا الناس تدوم مع خبثه أو تبقى أمة من الأمم مع صدارته؟

لا والله، وألف لا، ( والله لا يحب الفساد(205) ) (البقرة)، (والله لا يهدي القوم الفاسقين(5)) (الصف)، وذلك هو الذي أهلك الأمم قبل ذلك (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين 54) (الزخرف)، هذا في شأن فرعون، أما في شأن قوم نوح (وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين 46) (الذاريات)، ثم قال ربنا فيهم وفي أمثالهم: (فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون 40) (العنكبوت).

إذن فعلى أيدي هؤلاء يكون الخراب والدمار، يوضح هذا المعنى رسول الله ص في قوله: لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع. إذن فساعات خراب الأمم لا تقوم إلا على أيدي هذا اللكع الذي لا شرف له ولا نخوة ولا خلق ولا إحساس، ولا عزيمة، وتجده مع هذا أسعد الناس، مات ضميره، وطمست بصيرته وباع دينه وحطم الجميع، وهم اليوم كثيرون، قد ابتلي بهم العديد من الأمم.

فيا أيها اللكع: فلسطين الجريحة تئن كل يوم وأنت تسمع عويل الثكالى ونياح العذارى وعويل الشيوخ وأنين الجرحى، وترى أشلاء المدمرين، ودماء المذبوحين وتنظر إلى المنازل التي هدمت فوق رؤوس أصحابها، والبلاد والنجوع التي أزيلت من الوجود ونعقت فيها الغربان، والحصار الذي أجاع الكبار وأهلك الصغار وخرب المزارع وقطع الأرزاق وبدد الأقوات، حتى بلغت الروح الحلقوم، وأنت هانئ سعيد، تسمع الأغاني الداعرة وتتسلى بالإعلام الفاضح، وتبدد الأموال هنا وهناك، ولا ترى أو ترعى في الناس إلاًّ ولا ذمة، ولا يحس كبدك الغليظ ألماً، أو يتغير مزاجك المتيم شعرة واحدة!

أيها اللكع: هل أنت حي فعلاً، أو موجود حقيقة؟ وإن كنت تظن أنك حي، فما دليل حياتك وعلامة وجودك؟ وقد صدقتني اللغة العربية التي قال أحد فرسانها:

ليس من مات فاستراح بميت ** إنما الميت ميت الأحياء

انما الميت من يعيش كئيباً ** كاسف البال قليل الرجاء

وصدق الله: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) (الأنعام:122).

أستغرب يا لكع أن كل الدنيا تبكي لمصابنا ومصابك، وأنت لا تبكي على نفسك ولا على مصاب الأمة، وأن تقوم الدنيا وتقعد، ويهب الناس من كل حدب وصوب وفج عميق، جزعاً لما حل بنا، وأنت بارد خنوع مستسلم، ترفع الأيدي والأرجل وتمد الأعناق وتحضر السكين لتجهز على الضحية التي هي أمتك، بدون أن تدمع لك عين!

أكباد العالم تفتتت، وعيونهم تقرحت، وحناجرهم بُحت، وأنت تشرب المدام وترى القيان وتراقص الحسان:

تبكي علينا ولا نبكي على أحد ** فنحن أغلظ أكباداً من الإبل

هل ترى هذا أيها اللكع أسلوباً ترضاه حتى الحيوانات العجماوات التي تدافع عن صغارها، والطيور التي تدافع عن أعشاشها وتذود عن حماها؟ أي فشل هذا، وأي داهية تلك؟ وهل يا ترى كلامي هذا سيصل إليك؟ وإن وصل هل تشعر لبرهة به؟

فالفاشلون إذا غدوت تلومهم ** حسبوك في أسماعهم تترنم

هل تظل تترنم يا لكع، حتى وأنت تسمع أن الخراب يحيط بك، ويطرق بابك؟
العدو نفسه يصرح بذلك، ويقول لا بد من أن يغير حالك وأن يأخذ الخيرات وأن يعيد الترتيب بما يخدم أغراضه وأغراض الكيان الصهيوني الطامع في دحر الأمة!

وهل سيظل لكع يتقاتل ويتشاتم مع لكع آخر، ليزيدوا الأمة فرقة ونكبة على نكبة، ووهناً على وهن، تمهيداً وتوطئة للاحتلال المرتقب؟

يا لكع: إن العدو يحرضك على إخوانك ويطمعك في أمتك، حتى تنبذك الأمة وتكرهك القلوب، وتلعنك الألسنة وتود الخلاص منك على عجل!

الخاسر هو الأمة والذاهب هو ريحها وعزتها وكرامتها وخاماتها واقتصادها ومستقبلها، ومع هذا فلكعاتنا يحبون قاتليهم ويهيمون براكليهم بالأحذية ولا يريدون سماع ما يغضب الحبيب، ولا يريدون أن يشموا ما يزكم الأنوف ويلوث الأجواء عنهم في الحديث والقديم.

ولكنني يا لكع أقولها لك وأعلنها داوية عالية أن الأمة الإسلامية منتصرة بإذن الله وعزيزة إن شاء الله وستكتب تاريخ كل لكع بالسواد مكللاً باللعنات ليكون لها عبرة وذكرى. وصدق الله (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (إبراهيم). نسأل الله أن يذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور رحيم، آمين آمين.

-----------------------

نقلا عن مجلة المجتمع

Tuesday, September 25, 2007

سِهام مُحارب

قصةُ لَيْلَةِ حِلفٍ بين حاضرٍ وبادٍ ... تكشف الخلجات النفسية التي تقود حركة الحياة
بقلم وريشة
أ. محمد أحمد الراشد
سَيّارة الدفع الرباعي تنهب الأرض نهبا ، في أرض مستوية بين جبال جرداء جنوب الرُّبْع الخالي من جزيرة العَرَب ، وسائقها الماهر اُسامة الخفاجي سكرتير الراشد يتطلع فاحصاً ما حوله ، رانياً نحو القِمَم ، يريد أن يفهم حركة الحياة كما أوصاه اُستاذه ، من خلال السياحة الواعية ، والإيغال في البراري ، والمغامرة ، وإبداع التعامل النفسي الرفيع مع خَلْق الله ، من صخرة ونبتةٍ وظبيٍ يُنبيه خَبرَ الفِطرة والأصالة البريئة من تلّوثٍ وتصَنُّعٍ وتكلّف ، وإذ هو في تسبيحه المستوعب يلمح شبح رجلٍ يتربع على صخرة كبيرة ، فيخفض سرعته لئلا يؤذي الرجل بغبار سيارته ، مستحضراً على الفور وصايا اُستاذه ، فلما أن قارب الصخرة وأشار بالسلام : إذا به يلحظ برُغمَ البُعد صورة صناعة الحياة والباب المفتوح القديم المطل على ساحة الحضارة ، فضغط على الكابح فورا ، ووقف غيرَ مُصدِّق ..
- أأنا واهمٌ ، أم في حُلمٍ ، أم في حقيقة ؟
في الصحراء ، بين جبال عُمان ... تصنع الحياة ! !
من هذا الذي يُنافسني في الخير في أرض الأحقاف يقتفي آثار هُود ؟
- السلام عليكم أيها البدوي الذي يصنع الحياة !
وعلى تلميذ الراشد السلام ! تعال استرح .
- الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، أأنتَ من جنّ عُمان الذين نسمع عنهم ، أم أنت ساحر ؟ كيف عرفتني ؟
- وهنا يتراجع أسامة إلى الوراء بحذر ، ويستولي عليه خوف شديد ، وتتسارع نبضات قلبه ، ويعود إلى مقعد سيارته لينجو من المأزق .. فيبتسم البدوي .
- عُذ بالله ، لا تخف ، قل بسم الله واقترب ، أنا إنسي مثلك ، وأنا أخوك في الدعوة إلى الله ، وشريكك في فهم مُراد الراشد !
- بسم الله ، لكن كيف عرفتني ؟
- عرفتك بالذوقيات التي تلتزمها ! !
- كيف ؟ وما هي ؟
- حين اقتربت بسيارتك : أبطأتَ جداً ، لئلا يؤذيني الغبار المتطاير ، وذلك ذوق رفيع منقرض لا يفعله غير سائق قرأ رسائل العين والتقرير الميداني وتلمذ للراشد !
- فهدأ أسامة ، واطمأن ، وشرع يتعوذ بالله ، وينزل ، ويتقدم ، ويقوم له البدوي مُصافحا ، وكأن صداقة عريقة تربطهما ، أو بينهما وشائج اُخُوّةٍ كأنها مِصرية في عمقها .
- وما أخبار الراشد في محنته العراقية ؟ وكيف هو ؟
- مسكين ، قد أرهقه التعب والقلق وقِلّة من يفهمه ، وقد أطْلقَ المبتدأ ، وطال انتظاره للخبر ! !
- لا حول ولا قوة إلا بالله .
- وهو يُحدثنا اليوم في مجالسه في مركز المسار بنبأ النُبوّات التي خذلتها أقوامها ، كأنه يعني الإسقاط على حاله، وكأنه مؤذنٌ قد صَحِل صوته من علو النبرة والمدود ، ثم لا يجد في صف الصلاة كثير عدد ، مع خللٍ واعوجاج .
- آمنتُ بالله .. أفما تكون منك تسلية له ؟
- نعم .. سلوته في الجهاد العراقي ، وبه ما زال مرفوع الرأس ، وذبذبات الأمل تغريه .
- الحمد لله .. ذلك الظن به .
- دعني أروي لك نادرة من الفكاهة حدثني بها أبو نور بالسند العالي عن أبي أحمد عن نبيلٍ ببغداد قال : أثقلتني الهموم ومناظر القتول ومحنة أهل السُنة والجماعة في العراق ، وأوهام خوارج العراق الجُدد الذين يتهمون بالكفر مَن يتصدى لرفد الجهاد بمشاركة سياسية تقلّل الشرور ولعلهم يقتلونه عدواناً وجهلاً بالتخطيط والمناورة ، فخرجتُ إلى شاطئ دجلة لعلّ نسياناً يعتريني فيلهيني عن الآلام ساعة ، فوجدت قارورة ، ففتحتها ، فخرج عفريتٌ من الجِنّ .
- يعني مثلي ، هو ابن عمي .
- فضحكا ، حتى أثملتْهُما رقائق الانبساط وزوال الكُلفة ، كأنهما تداولا علاقات القلوب أباً عن جَدّ .
- قال النبيل : فقال الجنّي : لبيك ، اطلبْ ، عبدٌ بين يديك ! !
- سئمتُ عيشَ العراق ، حيث الطائفية والعدوان بعد دهرٍ من الحروب والحصار ، فاصنع لي أيها الجِنّي جِسراً أعبرُ عليه من بغداد إلى الصين ، فلربما أجد هناك أمناً وسَعة !
- نعم ؟ تورطتُ فقلتُ لك : اطلب ما شئتَ !؟ لكن يُفهم الكلام بالإنصاف، هذا شيءٌ صعب ، فاطلب ما هو أخفّ عليّ.
- طيب : اجمع لي عشرة من أهل العراق عُقلاء اُشاورهم في مستقبل العراق ، وأسبق بهم أصحاب الدراسات في استشراف المستقبل .
- قال الجني : أفندم ، مولاي : كم طابقاً تريدُ جسرك إلى الصين ؟
- فضحك جنّي عُمان حتى استلقى على قفاه .
فقال أسامة :
- ضحكتك تذكرني بسماحة أهل العلم ، فقد روى لي الراشد قال : كنتُ جالساً في ظل حديقة دار شيخ الكُتُبيين زهير الشاويش بالأشرفية ببيروت أحاور شيخ السلفية محمد ناصر الدين الألباني ، وفي الحديقة مُهرٌ أهداه مُحبٌ لزهير ، فأراد رجل كلّفه زهير أن يروّضه ، فجمح به وألقاه ، فسقط وتكشّف ، فضحك الألباني ، حتى استلقى على قفاه ، ويريد لنفسه أن تهدأ فلا يستطيع .
- نعم ، هكذا أهل العلم ، ولستُ مع العُبوس .
- عفواً : أنساني الفرح بلقائك عن السؤال عن اسمك .
- أنا محارب بن قيس الحِمْيَري .
- وأنا أسامة الخفاجي ، سكرتير الراشد .
- سُبحان الله : إن خفاجة أولاد عم عُبادة الذين منهم بنو عِزّ الذين منهم الراشد ، وترجعون إلى قيس عيلان ثمّ إلى مُضر ، وهناك من ينسبني قيسياً ، فنكون الثلاثة تجمعنا القربى .
- سبحان الله ، وتلك وشيجة تؤكد وشائج الإيمان الذي يجمعنا .
- لكن : ما الذي جاء بك إلى هذا القفر البعيد ؟
- روح المغامرة ، وابتغاء تقوية النفس ، وتحريك الإبداع ، وتنمية العقل ، وإتاحة التسبيح للقلب إذا رأى غرائب الخلق ، وأنا تلميذ الراشد ، وهو يحثنا على السياحة المنهجية الواعية ، ويروي لنا فقه الرازي في تحبيذها ، فقطعتُ سبعَ صحراوات بسيارتي هذه ذات الدفع الرُباعي ، وكأنّ نصف نجاحي قد تحقق برؤيتك ، وأنا في طريقي إلى صلالة ثم إلى اليمن ، ومنها أصعد إلى مكة موسم الحج ، ثم أرجع إلى العراق أقصّ لهم القصص .
- ما شاء الله ، رَبّ تمّم بكل خير .
- سياحتي ليست غريبة ، إنما الغرابة في أمرك : أن تكونَ في الصحراء ، بين الجبال ، وحيدا .
- كلا ، لستُ فريداً ، بل معي أهلي وعيالي خلف ذاك الجبل ، وأنا مهندس ، ومتخرج من أميركا ، وأعرف دروب صناعة الحياة ، ونبَضات حركتها ، وفقه الراشد هو الذي أخرجني إلى هنا ، كما أخرجك ، وأنا نذيرٌ للأمة ، لكن من خلال منظري الصامت ، لعلّ جيل المسلمين يَقْتَدي ! !
- كيف رحمك الله ؟
- مَرّةً قال لنا الراشد في دروسه أنه لما كان صبياً : كان له شقيق يضع بين يديه مجلة الأنصار لعبد القادر حمزة نقيب الصحفيين بمصر ، قبل ستين سنة ، ويطلب منه أن يطالعها ، وهو والد كريمان حمزة الإعلامية المعروفة في التلفزيون المصري والأولى التي ارتدت الحجاب في الوسط الإعلامي ، وقد رَصَدَ حمزةُ نفسَه عبر مجلته للنِذارة من خطر التغريب الغازي ، في الفكر والأخلاق والأذواق ، ورأى العصمة من ذلك إنما تكمن في العودة إلى البداوة والأصالة من أجل الحفاظ على مقوماتنا الشخصية ، وأنا قد درستُ في أميركا ، ورأيتُ تفاهة تربيتها وفكرها المادي ، فندبتُ نفسي لتحقيق أحلام حمزة ، واخترتُ الصحراء والصيد والقوسَ والنبال ، ترويجاً لأسلوب البداوة الأول ، وتصويراً للنقاء ، والمبالغة في البُعد عن التلوث بماديات الغرب ، واليوم إنما تريد أميركا من استعمارها للعراق أن تنشر فكرها ومناهجها التربوية قبل أن تكون طامعة بالنفط الذي تركتَه وراءك في العراق والخليج ، وأنا أريد أن أقوم بتفهيم المسلمين أشكال هذا الخطر .
- لكن يا أخي الهمام : هذا شعور طيب أظنه يتمثل بآلياتٍ خاطئة ، فإن الراشد واضح في دعوته إلى التربية من خلال دواليب الصناعة وصليل حديدها ، ووزّع الدعاة على ثنايا صناعة الحياة وثغراتها ، فلم يذكر فيها البداوة ، وآخر فقهه في رؤاه التخطيطية يدعو إلى التنمية الشاملة وجعلها شُغلاً دعوياً ، فكيف استنبطت الرجعة إلى البداوة ، وكيف اجتهدت خلاف اُصول الاجتهاد ، ولو صرنا في البادية فمَن يصاول العلمانية في الحواضر ؟ ومن يُبشر وينذر في ساحة السياسة ووراء الأروقة ؟
- بل أنا على هَدي الراشد وفهمه ، وأنا تابعٌ وفيّ ، وقد ذهبتَ بعيداً عن فهمِ مُرادي وأسلوبي وإبداعي ! بل سَنَدي يمر بابن الطلب الشنقيطي الذي أحيا سُنن الشمّاخ بن ضرار في الصيد بالقوس ! !
- كيف تتوافق مع الراشد وأنتَ على هذا النحو ؟
- لستُ أدعو إلى بداوة الدعاة ، لكني أرى أن تتمثل البداوة والصيد ورجفات الأقواس ورشقات السهام في شخص من الدعاة ، يجمع معاني الأصالة ، ويقوم منظره شاخصاً واعظاً مربياً ، والغزلان من حوله مضرّجات بدمائها ، فينتصب الشاهد الذاتي الرافض للميوعة والتطبيع ومخادعات السلام ، وتلك صنعة من فنون صناعة الحياة لابدّ أن يسوق لها القَدرُ أصيلا ، فكنتُ أنا السابق ، اُربّي بمنظري ، كما كان ذاك التابعي القديم الذي بنى صورة حصنٍ صغير وربطَ عنده فرسه ولبسَ درعه : يُحيي معنى الجهاد ويصنع دعاية للغزو ، فكان خطاً خلفياً لإسناد الخطوط الأمامية .
- معنىً عظيم في ربطِ الخَلف بالسلف ، والحاضر بالماضي ، ويدع المبدعَ يستمد من التراث ويبقى أصيلاً إذ هو يتجول في ميادين العلوم ، ويدرس فيزياء الكم ودقائق الذرّة بنفسية الشمّاخ الشامخة .. عظيم .
- الحمد لله أنك أسرعتَ فهمي .
- تربية الراشد .
- صدقت ، وإني لفي شوقٍ إليه .
- ولكن ما هذا العود الذي في يدك ؟
- غصنٌ من شجرة نبْعٍ استجودته في هذا الجبل ، أريد أن أبري منه قوساً جديدة ونِبالا ، فإن عيالي جياع ، وها هنا وراء ذلك الجبل غدير ماء ترده ظباء المها ، ولي ركن أتسلطُ منه عليها ، فما يخطؤها سَهمٌ إن شاء الله .
- ما شاء الله ، واقبل مني هذا الهاتف النقّال هدية ، فأنا أحمله احتياطاً ، وعليه رقم هاتفي الآخر ، فاتصل بي ، وليدم تشاورنا عبر الهواتف ، واسمح لي أن أغادر إلى صلالة فإني على موعد هناك .
- بل اصحبني إلى خيمتي لتناول العشاء .
- شكراً ، فالموعد يشغل بالي .
- إذاً إنّ صلالة على بُعد ساعة واحدة ، وإنك تصلها إن شاء الله قبل الغروب .
- فتعانقا ، وتواصيا ، وانطلق أسامة جنوبا .
وجلسَ مُحاربٌ على صخرته يفكر في هذا اللقاء القَدَري ، وإذا به يجد نفسَه أمضى عزماً وأعمق إصراراً على أن يقوم شاخصاً بين دعاة العالم يتجرد لمهمته الإبداعية في إحياء فقه البداوة وقنص المها ، وكأن الله ساق له من أرض العراق من يشهد لصواب مذهبه وتأويله ، فهو يعرف ما يُريد ، وغايته واضحة ، ومبتغاه أن يُحرك الحياة بذبذبات أوتار الأقواس ، على أنغام أزيز ريش السهام حين تهتز قاصدة أهدافها ، وإنما ذلك تمهيد لعلو التمني ، وإقرار لصفاء المعتَقَد ، وإظهار لتجريد الوجهة ، وتبسيط للوسيلة ، ورجوع إلى الفطرة ، ونقض لغرور العولمة وتبخترها ، وبراءة وطهارة من غبار الاختلاط بكافر ، ومفاصلة مع دعيٍّ وكاذب ، ثم هي خلوة تتيح الفكر الحر ، واستقلال الموقف .
وانطلاقاً من هذه الخلجات بدأ ينحت قوسه من غصن النبع الذي اختاره ، وقد مَلَك عليه القوسُ جميعَ نفسه واهتمامه ، فهاجت أشواقه ، ونمَتْ حاسة العِزّة فيه ، وامتلأ ثقة ، واعتداداً ، وأيقن أنه يملك المستقبل ، لأنه مع آلة الذود تصادِقُه وتصدّقُه ، وارتفعت وتيرة تصاعد العزم لديه ، فجرَت على لسانه أبيات شعرٍ لم يصبر أن ينفردَ بها ، فضغط على أزرار هاتفه ليتصل أول اتصال بأسامة ..
- أخي ، ما عُدتُ أصبر على حبس المعاني في صدري ، فاسمع ترانيمي ..
يا رَبّ سدِّدني لنحتِ قوسي
فإنها من لّذّتي لنفسي
وانفع بقوسي وَلَدي وعِرْسي
أنحَتُ صَفراءَ كلونِ الوَرْسِ
كَبْداء ليسَت كالقِسِيّ النُكسِ
- الله .. لقد هزَزتَ أوتار قلبي ، وأثرتَ كوامنَ عقلي ، وأيقظتَ في داخلي فقهاً تعاهدنا عليه يحدونا نحو الاستعداد ، وقياس موقعنا من المحيط بالقوس ، وإنك أيها الميمون لعلى صراط مستقيم ، فإن الانحناء وشدّ الوَتر قانونان في توليد زخم الحركة وحفظ نبضها في المسار العدل ، وإنا لنمضي ، فإذا وجدنا مانعاً معترضاً : التففنا ، واستدرنا بزاوية الرُبع والثلث من أجلِ أن تستأنف الأرباع والأثلاث توغلها مستهدية بفقه الدائرة المنحنية الحانية الحريصة على ما تحوز في داخل محيطها ، وإنك يا محارب قد استرسلتَ معَ الفطرة ، وأحييت فقه الأقواس ، لتتيح لنا فهم المعادلة وجذورها الرياضية ، فاثبت على هذا الديدن ، وهذا تلقين لنا ، وإقرار منك ، وتحفيز ، وتوكيد ، ودفع في طريق فهم حركة الحياة عبر إسقاط قوانينها الكلية على ظواهرها الجزئية ، واستنباط المعاني من خلال رؤية العلاقات بين الأجزاء ، ونحتك لعود النبع هو الأصل لحشد الإلقاءات النفسية الجياشة في قلب حرّ ينحت منطق الاستبداد بدلائل الحرية المندمجة بنزعة القوة .
- وينتشي محارب ، وتأخذه هِزة ما عرف مثلها من قبل ، ولا ذاقها ولا توقعها ، وامتلأ يقيناً أنه على الدرب ، وتَحمِلُه نشوته على أن يمد يده إلى بقايا عود النبع ، فبرى منها بشفرته خمسة أسهمٍ بديعة أعجبته ، وهَمَس جمالُها في سمعه بمعنى ردفته المعاني ، وغرست رشاقتها في قلبه نبعاً يانعاً يمنحه نقلةً واثقة نحو المستقبل ، فتزاحمت القوافي على فيه ، والتقط هاتفه ..
- أخي .. لو كنتَ معي لرأيتَ هيبة أسهمٍ خمسةٍ اقْتَرَفَتْها أناملي ، فاسمعْ وصفها وقولي فيها ..
هُنّ ورَبّي : أسهمٌ حِسانُ
يَلَذُّ للرّمي بها .. البنانُ
كأنما قَوّمها ... ميزانُ
فأبشروا بالخِصبِ يا صِبيانُ
- أحسنت ، زادك الله فصاحة ..
إني استطيع تمييز ما يختلج في صدرك ..
إنها أثقال الوعي ، وضرائب الفهم ..
ستُقلقُكَ خواطرك وتنفضك ..
لكنها ترسو بك إلى مُستقَرّ ..
إنها حيصة إبداع الأسير .. حين يبحث عن مَخْرَج ..
وآمال الكسير .. حين يحتاج الركض ..
وسَعة الحثّ .. إزاء ضيق اللبث ..
ونحن نَدري صفةَ عملنا ... ونداري ..
خُططٌ حِسان ... صاغها فِكرٌ منهجي ..
ورَمياتٌ نفسية .. تنطلق تتْرَى ..
ذاتُ أساليب .. نوَّعتها الألوان ..
وصقلتها تجارب .. بعد إذ أحكمها ميزان ..
لذلك ... لمعت البشائر ..
فإن المستقبل الواعد وليد صواب البداية ..
- فكاد قلبُ محارب أن يرفرفَ مع هذه الإشارات ، واستبدّ به زهو ، فحمَلَ أقواسه ، واتخذ له موقعاً كميناً مستوراً في سفح الجبل عند موضع ورد ظباء المها ، حتى أرخى الليل ستوره وكان الظلام ، وساد السكون ، فبدأ وقع الحوافر يطرق سَمعه ، وكتم أنفاسه ، تمكيناً لها أن تطمئن وتأمن ، وهو من شدة العَتَمَة لا يرى حتى أشباحهن ، إنما هو الصوتُ فقط ، وجَلَبةٌ خفيفة ..
شدّ محارب الوَتر ، وسمّى بسم الله ، وأطلق ..
فكان الحَفيف أفخمَ نغمٍ لديه ..
ومَدّ عُنُقَه يتتبع ..
فأورى سهمُه في أحجار الصوّان نارا ..
فكانت الصدمة في دواخله أعتى من صدمة النصل بالحَجَر ..
ربّاه .. أخطأت الهدف وأنا الماهر وحليفي الإتقان ..
- : أسامة .. اسمعني .. طاشَ النَبْلُ الأول فلم اُصب ..
أسامة .. ماذا ترى .. ذهب خُمسُ ترتيبي ..
تبدّد خُمس أملي .. اضطربتْ معنويتي ..
أعوذ بالمُهيمِنِ ... الرحمنِ
من نكَدِ الجَدّ مع الحرمانِ
ما لي رأيتُ السهمَ في الصوّانِ
يُوري شَرار النارِ كالعِقيانِ
أَخلفَ ظنّي .. ورَجا الصِبيانِ
أفتني يا أسامة .. خسِرت جولتي الأولى ..
إنه نكَد الحظّ وقَدَر الحرمان .. أم ماذا ؟
- كن حَسَن الظنّ بالله يا محارب ..
لستَ الأوحدَ يواجه الحَيْرة ..
نحن بالعراق أحكمناها ، وظننا أننا استوفينا ..
فجاءت رياح .. مَزّقت الشراع ..
ولئن كنتَ رميتَ فأوريتَ ناراً فيها سَلوة .. وتومي إلى ضياء .. إنّا رَمينا .. ودَقّقنا الحساب .. فارتدّ ظلاما .. ينشر الأحزان ..
وإن كنت في حَيرة .. فنحنُ في متاهة ..
سفينتنا فيها سَبعةُ ربابنة .. يأكلهم القِرش الكوسج الأسود ، وهم في غفلةٍ مُعرضون ..
وفي آفاقنا جيلٌ هائِم .. وقاعدةٌ عائمةٌ قاعدة تترسب .. تلوكُ القول .. وتخذل المتصدي ..
إنما نحن رجال الوَسَط .. نأبى اليأس .. ونصاول .. فكن معنا على درب المثابرة .. وحاول ..
- فيستأنف محارب .. ويُعاند الإحباط الطارئ ، وينتظر ورود قطيعٍ آخر من المها بعد أن أجفلَ سَهمُه البِكرُ أولَ قطيع ، حتى إذا كان الهدوء كان وقع الحوافر يزداد ..
وإذ هُنّ يَكرعْنَ : رَنّ سهمُه الثاني ..
وإذا بالقدحة توزّع الشرر ..
وإذا بقلب محارب يتوزع ..
- يا أسامة .. أهي خَيبةٌ تظلمني ثانية فتقدح الصَّوّان ؟
أم هو ذنبٌ وراء الإخفاق ؟ لست أدري ! !
أعوذ بالرحمن من شرّ القَدَرْ ! !
أاُمْغِطُ السهمَ لإرهاق الضَرر ؟
أم ذاكَ من سوء احتمالٍ ونظرْ ؟
أم ليسَ يُغني حَذَرٌ عند قَدَرْ ؟
يا أسامة .. قد استوفيتُ استفتاء نظرية الاحتمال وأحطتُ بخبر استشراف المستقبل ، واكتلتُ من النَظر التخطيطي ، أفهو القَدَر أغلب ؟ أم تلزمني سرعة الرشق بالسهم والمبالغة في الإمغاط ؟
أجبني .. أو أمزّقُ ثوبي .. ! !
- كنْ رابط الجأش وارفع راية الأملِ ... قالها الوليد ...
رويدك .. فإنّ الحُسنى توشك أن تُنيلَ صاحِبَها إذا اتأدْ .. !
نحن في العراق قد استأنفنا بَعدَ العثرة ..
واتهمنا أنفسنا .. واستغفرنا .. وأنبنا ..
وكان في الأول مِنّا تأويلٌ ... فرجعنا إلى الظاهرية ..
واعترانا ذهول .. فالتزمْنا التحديد ...
وقَبلُ ارتجلنا .. فخرجنا إلى تخطيط .. من بعد ..
وحسُنت أخلاقنا .. وتفانينا .. وأنكرنا ذواتنا ..
لكنّ أهلنا كذّبونا .. وخذلونا .. ولاكت ألسنتُهم الفِرية بعد الفِرية ..
ربّاهم الظالم على خنوع .. واستخفهم فأطاعوه وقلّدوا ظُلْمَه .. فطاشوا في الولاء ..
لكننا نظرْنا ، فكان تشخيصنا للأمر : أنهم يحتاجون تربية ..
فأهدرنا سُمعتَنا .. وحقوقَنا ، وبدأنا نصطفي ... ونرَبّي الناس .. يُصلّون خَلفَنا ... ويصوّتون لغيرنا ..
لكننا نوينا الصبر .. لأننا نريد الجنة ، وسنبقى نستخلص من ذرياتهم مَن هو أنقى منهم .. واقرب إلى الإنصاف ..
فاصبر .. وصاول ..
- ويصبر محارب .. فإنها ليست إلا ساعة من ظلام .. ثم أصداء الحوافر تدفع أصابع يُمناه ليمسك بالسهم الثالث ، واستمكن وأرسل ، فإذا بقَدْحةٍ وشَررٍ يُعيد شرّ الإحباط ..
- يا أسامة .. أين أنت ؟ أما زِلتَ في عُمان ؟
تركتني وحيداً ... وتزعم أنك تجمع أجزاء حركة الحياة ..
عالج سكوني .. وسكوتي .. قبل جَسّ النَبَضات .. !
يا أسامة ..
ما بالُ سَهمي يُظهِرُ الحُباحِبا ؟
قد كنتُ أرجو أن يكونَ صائبا
إذا أمكنَ الظبْيُ وأبدى جانبا
فصار رأيي فيه رأياً كاذبا ! !
يا أسامة .. سل أبناءك .. أيجدون في الفطرة التي هم عليها تفسيراً بعد إذ خَذلَنا وعيُك ! ! وقد زعم الراشد .. وزعم .. فتابعناه.. أفما يكون على وَهْم ؟ أخبرني.. وإلا كفرتُ بالبداوة.. وأذهب أتطاول في البُنيان !!
- كلا يا حبيبي .. بل أنتَ المؤمن يا محارب ..
وليسَ مِن وَهم .. لكنها وطأة الهَمّ ..
مُذ أتانا ونادى في مسجد أبي حنيفة ... كان الرأي صادقا .. ! لكنها هجرةُ الناس خذلتنا لمّا أرهَقَهم الكيدُ الشعوبي ..
فلا تتطاول يا أخي .. بل امتدّ على سَنَن التنمية والرؤى الجديدة ..
وأما انحراف نبلك .. فلعلّه بسبب شدة الظلام ..
وما أرى اتهَام نفسِك .. فإنك على ذخيرة من الدين والأخلاق والمروءة ... ولي شاهدٌ من نبلك ..
اسمع يا أخي ..
الناس على وعي .. وكل لسان يلوك أمر السياسة ، لكنه الإيمان أصبح عُرفياً هامشياً لا يستمد من موازين القرآن ..
إنها تربية الفضائيات طغت على تربية المساجد ..
الناس تخذل المصلحين ..
الناس تهاجر ، وتترك بغداد للشعوبية ..
وعاةٌ .. لكن لا يريدون التضحية .. وهَالهم القتل ..
لولا النفَر ، من مجاهد وحارس صامد أمين ..
فاصبر ... وتأوّل خيراً ..
وتعال اُصارحك .. لماذا تجفلك قَدحةُ النصل ؟
أنت تراها شرَراً ..
وأنا أراها .. لمعةً .. وومضةً .. ووَعداً ... وبشرى !
- ويتوب محاربٌ .. إنه كان أوّابا ..
ويُرسل سَهمَه الرابع .. لكنها .. القَدحة !
واهاً .. واها ..
إني لشؤمي ، وشقائي ونكَدْ
قدْ شَفَّ مِني ما أرى حَرُّ الكبدْ
أخْلَفَ ما أرجُو لأهلي وولدْ
ويريد أن يُبلّغها لأسامة ويطلب نصيحته ، ولكن يبدو أن أسامة كان قد غادر صلالة نحو اليَمَن وانقطع الاتصال وتجاوز مجال التغطية والبثّ ..
وتحدثه نفسُه ، فيجد رصيداً من مواعظ أسامة يحمله على أن يجرّب سهمه الأخير الخامس ..
هل بقيَ أمري مُعلقاً بهذا العود النحيف الحائر الذي يزيده استفهامي نحتاً ويقعد به إحباطي ..
لأرسله يلحق بإخوانه ..
فإن كان ... وإلا فإنّ يأساً جديداً لن يجدَ محلاً له في قلبي فارغاً محجوزاً ينتظره ... لقد انتهيت .. فليكن ما يكن ..
ومضى السهم .. ورَنينُ مروقه يخرق السكون ..
الله .. الله .. لا حول ولا قوة إلا بالله ..
هي القدحة مرة خامسة ..
ويتناول هاتفه .. لكنه الصمت ..
وحيدٌ مع الأحزان ... ولا سلوان ..
ويكلم نفسَه : تسافر الآن يا أسامة وأنا المحتاجُ إليك .. أهكذا الأقدار حين تجتمع وتتراكم وتحاصر الحيران ؟ ؟
أتجبَهُني نكبتان ؟ نكبةُ ضغط العدو عليّ ، ونكبةُ غياب الواعظ ووكيل الفِكر وأمين القصص ! !
لك الله يا قلبي الحار .. لك الله يا فؤادي الملذوع ..
أبعدَ خمسٍ قد حفظتُ عَدّها
أحْمِلُ قوسي واُريدُ رَدّها
أخزى إلهي لِيْنَها وشَدَّها
واللهِ لا تسلمُ عندي بعدَها
ولا اُرَجّي ما حَييتُ .. رِفْدَها
- ويتصاعد الغضبُ في نفس المحارب ، فيقوم واقفاً في الظلام ، وقد نفرت الظباء فلا يسمع إلاّ الأصداء المتناقصة من وقع حوافرها ، وقد خسرَ كلّ شيءٍ من عتاده وأمله ، وأصبح في موقف حرجٍ أمام عياله ، وأمام أسامة لو درى ، وأمام الأدب ، وأمام التاريخ ..
ثم انتابته حالة ضياع ..
فطفق يصيح وينادي بأعلى صوته ..
ويلي .. ويلي ...
يا ظباءُ لا تعودي .. كوني حُرّة ومُوتي عِطاشا ..
بل يا ظباءُ عودي .. فلن تجِدي رامياً ماهراً ..
لا تخافي .. أنا الفاشلُ التائه ..
إشربي .. أنا السِّلميُ الجبان ..
- وقبل أن تتلاشى أصداء صراخه بين الجبال : رفع قوسه بشماله ، وهوى به على الصخرة ، فكسَرَه وهشّمَه ، فاستحالَ شظايا .
وجلسَ مُحارب سانداً ظهره إلى الصخرة ، والوساوس تسيح به إلى اُفقٍ بعيد ، حتى استرخى ، فأخذته إغفاءة أطالها تعَب الانهيار ، فلم يوقظه غير تغريد طيرٍ قُبيل الشروق ، فقام مُسرعاً ، يريد الوضوء من غدير الظباء ليدرك الصلاة ..
- الله ... الله أكبر ... الله أكبر ...
ما هذا .. ؟ آمنت .. آمنت .. !
خمسٌ من المها مضرّجاتٍ بدمائها قد اخترقتها سِهامي .. أهذه قوةُ ساعدي قوّاها الله فأنفَذْتُ .. ؟
إنها رميات موفقات من قوسٍ صادق ... فصدّقها الله ..
لِزَخمها .. وإمغاطها .. وسرعتها : اخترقتْ رقاب المها ، وظهرت من جانبها الآخر ... فضربتِ الحَجَر .. فكانت القَدَحات ..
قَدحةٌ .... بعد ذِبحة ..
تلك هي حركة الحياة إذاً حين يتولاها الله بعد نشأتها الأولى ، فتكون البَرَكة ..
بسم الله .. بسم الله .. بسم الله ... بسم الله ... بسم الله .... والله أكبر .
- ويعود محارب إلى صخرته ، ويلتقط هاتفه ، ليخبر أسامة .
- نعم يا محارب ، الآن بدأ هاتفي يستلم ، وأنا داخل حدود اليمن ، لكن إياك والشكوى ..
يائسٌ يستشير مُحْبَطاً .. !
- كلا ، كلا يا أسامة .. إنها البُشرى إذ أنت في أطراف المُكَلاّ ..
- بشّركَ الله بخير ..
- لقد رميتُ بعدك ببقية أسهمي في الظلام ، فأذهلتني القدحات ، فتمّردَتْ نفسي وطاشت ، وأردت إخبارك فوجدتك في طريق السَفر بعيداً عن التغطية ، حتى ملكني اليأس ، فكسرتُ قوسي ، فلما كان الإسفار وجدتُ كلَّ سِهامي نافذة ، وخمساً من المها السِمان مضرجات بحمد الله ..
- ما شاء الله .. ما شاء الله .. عاشت يدك لتبري أقواساً غيرها وتقنص المزيد ..
وتلك قصةٌ حَرِيٌ بفقه الدعوة أن يدونها ..
- لكني أنا الآن التائب الندمان .
ندِمتُ ندامةً : لو أنّ نفسي
تطاوعني .. إذاً لبَترتُ خَمسِي
تبيّنَ لي سَذاجَ الرأي منّي
لعَمْرُ اللهِ حين كسرتُ قوْسي ! ! ( 1 )
- لكن من التجربة نتعلم ، وبعد عثرة الخطأ تكون نهضةُ الصواب .. واُريد أن اروي لك بقيةً من فقه الراشد ..
- كلا يا أسامة .. بل أنا الآن الواعظ، وقد صنعتُ الحياة ومارستُ ، ورجعتُ بنبأ يقين.. وأريد أن أبلغك رسالة إلى أهل العراق..
لقد صَدَقَتْ فِراستي ، فتعلمتُ من صَنعة البداوة ورياضة القنص أطرافاً من أخبار حركة الحياة ما كان لي أن أتلقنها لو لم يكن بشمالي قوسي وأسهمي بيميني ..
أرجع يا أسامة من اليمن إلى بغداد برسالتي ..
- قل لأهل بغداد أن محارب القيسي وَجَد قولَ الراشد حَقّا ، فحالفَ الخفاجي ، وخالفَ دُعاة الهزيمة ..
- قل لهم : إن محارباً هو البائن الكائن ..
بائنٌ عنهم بانزوائه في الصحراء يُعيد سُننَ الأوتار ، ويحاول إحياء فقه البداوة الأصيل ، نقضاً للعولمة ، وتمثيلاً للمعنى العتيد بين العالمين .
لكنه كائن معهم بقلبه وروحه وفِكره ، يرتاد لهم ، ويُثري الفقه القيادي ..
- قُل لهم .. هو الغائب الحاضر ..
وأنتَ حَضري .. وأنا بَدَويّ .. لكنّ الدعوة صهرتْ شخصيتَينا معاً فامتزجَتا ، وصيغت الأصالة مُندمجةً مع فقه التخطيط الطارِف الجديد ..
- قُل لهم : إنّ السهمَ جِرمٌ صغير ، إنما فيه انطوى العالمُ الأكبرُ ..
- قل لأهل بغداد وقُرى دجلة والفرات : إنّ سهامَكم نافذة ، وقد قَدَحت بعد أن ذبحتْ ، لكن التعتيم الإعلامي هو الذي يُغطّي الحقيقة والخبر ..
- قُل لهم : لا يسْتفزَّنكم الذين لا يوقنون ..
إن سهامكم الأولى أثخنتْ في جيش الاحتلال الأميركي ..
وأنتم حلقة الوصل الحاضر في سَند الجهاد العالي بين سلفٍ كريم .. وجيلٍ مستقبليٍ يواصل ..
وإنّ سهامكم الأخرى هي التي ستفهمها الشعوبية ..
- قل لأهل العراق :
إنّ ربّاً عزيزاً ألهَمَ مُحارباً البَدوي نحتَ وبَرْيَ الأقواس والسِهام ، وهو يريد أن ينقلها ... للأبرياء ..
- وقل لدعاة الإسلام في العراق :
أنتم تفتحون الفتوح ، ولكنّ النتائجَ تتأخر ، وطريق الجهادِ طويل ، والسياسةُ جزءٌ منه ، فلا يحملنكم تكذيب الجاهل والمستعجِل على أن تركنوا ليأسٍ وإحباط ، فإنكم تتخذون من التخطيط الشمولي وسيلة ، ومن الرؤية الإستراتيجية سَلوة ، والبناءُ من شأنه احتياجُ الوقت ، والهدمُ سهل ، والإرجاف مفضوح ، وإنّ يداً تتقدم إليكم بغدرٍ واغتيالٍ لهي يدٌ توشكُ أن تشَل ، فإنكم على طريق الهداية ، وقد جمعتم بين الحُسنيين والجهادَين : جهادَ الرميِّ .. وجهادَ الرأيِّ والحُجَّة والسياسة والمنافسة والتدبير والكلمة الصادقة في يوم الكذب ، والشعار المستقل في ساحة الاختلاط ..
- ويا أسامة .. قُل للجميعِ .. إن الشهادةَ منحة ..
وإنّ سقوط عايد جبر العيساوي هو علامة الصعود

الجنود الأخفياء

كم من المصاعب لقيها ذلك العامل الذي أضناه حمل الطوب وشمس الظهيرة تلسعه هو ورفاقه كل يوم..حتى
استطالت ناطحة السحاب تلك..ثم جاء يوم الافتتاح فقُص الشريط وإذا بأولئك المساكين يقطر منهم العرق وهم لم
يشهدوا لذة إنجازهم ولو بحضور ذلك الحفل..
كم من الناس يعرف أولئك الذين لولا الله ثم كفاحهم..لم تقم تلك الشاهقة ولاجزء منها..
ربما لا أحد وربما عرفوهم اليوم ونسوهم غداً..
تلك صورة من ميدان الحياة نشهدها كثيراً..
ونظيرها في ميدان الدعوة والجهاد والعمل في سبيل الله .. كثير أيضاً..
أولئك هم الجنود الأخفياء
عمال الآخرة..
لا يهمهم أن يعم ذكرهم الأرجاء..بل غايتهم رب الأرض والسماء..
ولا يتحسرون على فوات حظهم من الدنيا.. بل يزيدهم ذلك سعياً وجداً..
أما أحدهم فإن نازعه غروره أو هتف به المادحون أنت أنت.. من مثلك..
ارتفع صوت الضمير بداخلهي عاتبه بإلحاح : أنت أعلم بنفسك منهم..
فيغض طرفه ويتذكر عيبه ونقصه..ويدرك أن مقالهم فتنة فيمضي دون أن يلوي على أحد..أو يلتفت لثنائه..
ثم لا يهمه بعد..أزجيت له المدائح أم كيلت له المذام..
ومع كل هذا فإنه لا يعرف العيش على هامش الحياة..
فحينما تنشده المواقف تجده يستنفر كل طاقاته ويسير إليها بكل إرادته..وكأن المسؤولية أوكلت إليه وحده..
فيهب إليها بروح قيادية متحملاً كل المشاق..لا يسأل أين هذا وذاك ولا ينتظر من يحمل عنه الأعباء أو يخفف عنه
ذلك الحمل..
ثم إذا كان في ساحة الموقف..ينظر في أي موضع ينبغي أن يكون..لا يبالي إن كان رئيساً أم مرؤوساً..آمراً أم
مأموراً..إن كان في الساقة كان في الساقة وإن كان في الحراسة كان في الحراسة
همه أن يعم النفع..وغايته أن يبذل..
يبتغي وجه الله..
ويقصد بلوغ الدرجات العلى بنيته..وحسبه..
هو في عرف البعض نكرة لا أحد يعرفه ولا شهرة تبرزه..
عمله منسي..وجهده مغمور..
لكن التاريخ يزخر بأمثاله ممن يعلم الله إيمانهم ولن يضيع يوم القيامة سعيهم..
الجنود الأخفياء
هم أولئك الذين يمثلون العمل لوجه الله
ويعلمون الناس أنه ليس شعاراً نتغنى به..بل هو قمة لا تعتلى إلا باختبار وفتنة..وجهد ونصب..
نرفع الراية لله
ونظن أن الناس ستقبل إلينا بأنفس بشوشة..وصدور رحبة..
قد تكون هكذا البداية..
لكن..سرعان ما يديرون ظهورهم..ويبدأ التمحيص..
حينها تتجلى حقيقة العمل..
إن أحجمت عن البذل..أو أمسكت عن العطاء..
أو رأيت من نفسك إعراضاً.فتنحيت عن مهمتك والدور الذي سخرت له طاقتك..
فاعلم أن هناك خلل في بنائك الأول..
تلك خسارة الدنيا..فلا تخسرأخراك لأجل الناس..
(من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب)

قد أفلح من أرخص لله ذاته..
وإن ذلت..فهي في الدرجات العلى أرفع

Sunday, September 23, 2007

اعتذار

أأسف جدا لتوقفي عن الكتابة بسبب ظروف خاصة ثم بسبب تعطل البلوج عن الاستجابة لأي مدخلات جديدة
والآن تم اصلاح العطل والحمد لله
ونواصل اللقاء ان شاء الله


Thursday, September 13, 2007

في استقبال شهر رمضان شهر الرحمن

Photo Sharing and Video Hosting at Photobucket


كل عام وأنتم بخير
هل علينا رمضان
مثل كل عام ، دخل رمضان المعظم والمرء يتنازعه شعوران
شعور بالفرحة الشديدة والرغبة في ان تجري الأيام ليصل الى رمضان
وشعور بالتقصير البالغ في الاستعداد النفسي والروحي لهذا الشهر وتمني ان تطول الأيام حتى يتم هذا الاستعداد
ولكن هل يتم هذا الاستعداد أبدا ؟
وسرعان ما سينتهي رمضان بنفس السرعة التي بدأ بها
وتتمنى النفس لو كان قد امتد ولو أيام قليلة فقط لتعويض التقصير والتفريط والغفلة
ولكن هل يتم هذا التعويض أبدا ؟

ويل لنا لو لم يتغمدنا الله برحمته
الهي وقف السائلون ببابك ، ولاذ الفقراء بجنابك ، ووقفت سفينة المساكين على ساحل بحر كرمك ، يرجون الجواز الى ساحة رحمتك ونعمتك ، فيارب ان كنت لا تكرم في هذا الشهر الشريف الا من أخلص لك في صيامه ، فمن للمذنب المقصر اذا غرق في بحر ذنوبه وآثامه ،الهي ان كنت لا ترحم الا الطائعين فمن للعاصين ، وان كنت لا تقبل الا العاملين فمن للمقصرين ، الهي ربح الصائمون وفاز القائمون ، ونجا المخلصون ، ونحن عبيدك المذنبون المقصرون المخلطون ، فارحمنا برحمتك فليس لنا ملجأ سواك بعد أن خذلتنا هممنا ، وتبدلت نياتنا ، وجد علينا بفضلك ومنتك واغفر لنا أجمعين ، برحمتك يا أرحم الراحمين ، وصلي اللهم عل سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار وسلم تسليما كثيرا

Sunday, September 2, 2007

إلى المنقبين عن الأخطاء

للدكتور : سلمان بن فهد العودة

عندما يبحث الإنسان عن الأخطاء، ويكون ذلك ديدنه وعادته يقع في إشكالية تشرب الخطأ، ويصبح كأنه مغناطيس ترمي به في التراب فلا يلتقط إلا الران والحديد
وهذا نمط تربوي واقع في المجتمعات أو المدارس العلمية أو المحاضن التربوية. ومنشؤه خلل في القصد والهدف، وجنوح في أصل التربية على إعطاء الفرد نفسه حق التصويب والتخطئة، مع الإسراف في ملاحظة الآخرين، وتتبعهم، وعد أنفاسهم، إضافة إلى شبهات مترسبة في أعماق النفس باتت وكأنها الحق الصراح
ولو لم تكن نتيجة مَن دأْبه البحث عن الأخطاء إلا القاعدة الفيزيائية المشهورة لكل فِعْل رد فِعْل، مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه لكفاه ذلك

التغافل ليس إقرارا للخطأ
والتغافل عن الأخطاء ليس غباء أو سذاجة أو إقرار خطأ؛ فإن من يقر الناس على أخطائهم ليس فقيها، ومثله الذي يلاحقهم ويتابع أخطاءهم ويقسو عليهم. والفقيه بحق هو من جمع هذا وذاك.
يقول ابن الوردي
تجنبْ أصدقاءَكَ أو تغافَلْ لهمْ تظفرْ بودهمُ المبينِ
وإنْ يتكدروا يوما فَعُذْرا فإن القومَ منْ ماءٍ وطينِ
ويسري ميزان الوسط بين التغافل والملاحقة في كل المعاملات حتى بين الزوجين، وفي الصحيحين في حديث أم زرع: قَالَتِ الْخَامِسَة: زَوْجي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلاَ يَسْأَلُ عَما عَهِدَ
يقول ابن حجر: يحتمل المدح بمعنى: أنه شديد الكرم، كثير التغاضي، لا يتفقد ما ذهب من ماله، وإذا جاء بشيء لبيته لا يسأل عنه بعد ذلك، أو لا يلتفت إلى ما يرى في البيت من المعايب، بل يسامح ويغضي

المرء لا يسلم من الهوى
وغالبا ما تتحكم العواطف؛ فيتصرف الناس بإملاء منها، وأشد ما يكون هذا عندما يتعلق بالشرع، ورغم ذلك فالناس لا يحبون أن تُهان كرامتهم، أو يُستخف بهم
ولما أجاز ابن عباس - رضي الله عنه - الدينار بالدينارين؛ قال له أبو أسيد الساعدي في ذلك، وأغلظ له؛ فقال ابن عباس: ما كنت أظن أحدا يعرف قرابتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لي مثل هذا
والمرء لا يسلم من الهوى في الحكم على الآخرين إلا من رحم الله
وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن المعلمي تجربة شخصية في كتابه [التنكيل 2/212] حيث يقول: وبالجملة فمسالك الهوى أكثر من أن تُحصى، وقد جربت نفسي، أنني ربما أنظر في القضية زاعما أنه لا هوى لي، فيلوح لي فيها معنى، فأقرره تقريرا يعجبني، ثم يلوح لي ما يخدش في ذاك المعنى، فأجدني أتبرم بذلك الخادش، وتنازعني نفسي إلى تكلف الجواب عنه، وغض النظر عن مناقشة ذاك الجواب، وإنما هذا لأني لما قررت ذاك المعنى أولا تقريرا أعجبني صرت أهوى صحته، هذا مع أنه لم يعلم بذلك أحد من الناس، فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخادش! فكيف لو لم يَلُح لي الخادش، ولكن رجلا آخر اعترض علي به! فكيف لو كان المعترض ممن أكرهه؟! وهذا يبين لك مساحة حظ النفس، والأنانية في الجِبِلة البشرية

قد يكون الدافع حسنا
إن تصيد الأخطاء قد يكون بحسن نية ودافعه خير؛ لأنه بحث من يستشعر الغيرة والرقابة، لكن تتولد عنده الروح السلطوية الفوقية على الناس
ومن الطريف: أن أحدهم كان يكثر من قراءة سورة القارعة إذا أم زملاءه، وكانوا يتندرون عليه أنه لا يكاد يحفظ غيرها، فصادف أن دخل الحرم مع زملائه؛ فقال مداعبا: لعل الإمام يقرأ تلك السورة ويغلط لأرد عليه
وأنت حين تلتزم بقول أو رأي أن فلانا يُؤخذ عليه كذا من الأقوال والمذاهب أو الأحوال أو الأخطاء، ثم تذهب للتحقق من ذلك والتحري حوله؛ ففي الغالب قد يسعدك أن تكتشف صواب ظنك السيئ فيه، بينما المفترض هو أن تحزن لتحقق الخطأ في أخيك المسلم
ولما ناظر داود الظاهري أحدهم، رد عليه ذلك الشخص وقال له: إذا كنت تقول كذا وكذا؛ فقد كفرت والحمد لله. قال له داود: لا حول ولا قوة إلا بالله! كيف تفرح لكفر أخيك المسلم؟
وما أجمل هذا الأثر الصحيح الذي يصف (البحاثة عن الأخطاء) عندما لا يرى إلا عيوب الآخرين وأخطاءهم، مع أنه قد يكون أسوأ حالا منهم: (يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ) رواه البخاري في الأدب المفرد موقوفا ورفعه ابن حبان في صحيحه وصححه الألباني
فنحن حينما نحاول أن نزن حسنات الآخرين وسيئاتهم؛ تجدنا في الغالب نضع إصبعنا على طرف الكفة؛ لترجح هنا أو هناك بحسب ميلنا أو هوانا! وقديما كان حكيم الفقهاء (الشافعي) يقول: ما ناظرت أحدا إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه
وقد قيل لعثمان - رضي الله عنه - وهو خليفة، إن قوما اجتمعوا على لهو وقَصْفٍ وفجور، فذهب إليهم فوجدهم قد تفرقوا؛ فحمد الله تعالى وأعتق رقبة.
ومن الجيد رؤية الجانب الإيجابي حتى لدى المخطئ، وخاصة حين يكون السياق داعيا لاستحضارها أو ذكرها، وقد مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - النجاشي بأنه ملك لا يُظلَم عنده أحد، وكان يومئذ كافرا، وقد قال ذلك لمناسبة أمر الصحابة بالهجرة إليه
رأت إحدى الداعيات في بلد إسلامي امرأة محجبة وهي تدخن فقالت: سبحان الله محجبة تدخن؟ ولو شاءت لقالت: ما شاء الله، بالرغم من أنها مدخنة إلا أنها التزمت بالحجاب
صحيح أن الإنسان الذي عليه سمات التقوى قد يُعاتَب، ويؤاخَذ على ما لا يؤاخَذ غيره، ويتحمل مسئولية أكثر مما يتحمل غيره، لكن علينا أن نتدرب على الوزن بالقسط وألا نُخسِر الميزان

هل يعني هذا أن علينا أن نبتلع الأخطاء ونتشربها؟
كلا، بل الأصل معالجة الخطأ، لكن إذا أفرط الإنسان في المعالجة احتاج إلى معالجة، وإلا فالنبي - صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة عن أبي هريرة:(الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ أَخِيهِ) وقد صححه الصنعاني، وحسنه الألباني وغيره.
والتعبير بالمرآة هنا بليغ، فأنت ترى فيها صورتك على حقيقتها بدون تعديل، وهكذا المسلم يرى فيه أخوه المسلمُ الوجهَ الطيبَ المشرق من الصواب، كما يرى فيه الخطأ أو النقص والجانب السلبي، خلافا لما يفهمه قوم وهم يرددون هذا الحديث ويظنون أنه يعني بيان العيب والخلل
.