Saturday, December 15, 2007

الداعية المحمول



أ. فتحي عبد الستار

تجدون الناس كإبل مائة، لا يجد الرجل فيها راحلة، بهذه الكلمات الموجزة البليغة، وصف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حال ركب الدعاة في كل عصر. وإن كانت كلماته ـ صلى الله عليه وسلم ـ تلك تنصرف على الناس في كل أحوالهم ومجالات حياتهم، إلا أنها بحال الدعوة ألصق، وبمجال العمل في سبيل الله عز وجل أوثق.

يقول اللغويون في تعريفهم للراحلة: هي البعير النجيب المختار، كامل الأوصاف، الحَسَن المنظر، القوي على الأحمال والأسفار، وإذا كان في إبل عرف، لقلته وندرته.

والرواحل من الدعاة تجدهم كذلك فعلاً، فهم نجباء مصطفون، يقتربون من الكمال، حَسُنت ظواهرهم التي تشي بحسن باطنهم، تجد منهم - وإن كان في بدنهم ضعف- القوة والجلد على حمل أعباء الدعوة، والقيام بها على أفضل ما يكون، لا يعرفون تعللا ولا اعتذارا، وليس في قاموسهم القعود ولا النكوص، يُعرفون في جموع الدعاة ويبرزون كعلامات وشامات، دون إعلان عن أنفسهم، يشقون للدعوة، ويمدونها بعصارة نفوسهم.

وليت هؤلاء الرواحل من الدعاة يحملون أنفسهم وأحمالهم هم فقط، ويؤدون واجباتهم هم فقط، وإنما الواقع أنهم في الأغلب الأعم- لتخاذل البعض وتكاسله وتوانيه- ينوءون أيضا بحمل غيرهم وأثقالهم، وأداء واجبات هؤلاء الأغيار من الغثاء المحمول.

وليت هؤلاء المحمولين اكتفوا بإلقاء أحمالهم وساروا على أرجلهم، فكفوا الرواحل أنفسهم، ولكن هذا الصنف يأبى إلا أن يركب ويتصدر، دون أن يكلف نفسه جهدا، ولا نفقة من وقت أو مال، مطلقين ألسنتهم الحداد بالسوء من القول في حق من يحملونهم، إن توجع هؤلاء الرواحل أو صدر عنهم الأنين من ثقل ما يحملون!!.

هذا صنف، وهناك صنف آخر من المحمولين، لا يقل خطرهم عمن ذكرنا أولاً، وهم لا شك يمثلون عقبة في طريق الرسالة، وثقلاً فوق ظهور الرواحل، إنهم صنف قبع خلف أسوار نفسه، واستراح في ظلال الدنيا، تجدهم يحملون ألقاب الدعاة، مكتفين بشرف الانتساب، ولا يملون من التغني ليل نهار بهذا الشرف، ولسانهم لا يمل من الثناء على المثل العليا من الدعاة والمصلحين في الماضي والحاضر، وحكاية ما يبذلون ويقدمون، ممصمصين شفاههم، دون أن يؤدوا ما يفرضه عليهم هذا الانتساب الشريف من تبعات، باذلين الأعذار الواهية، والحجج المائعة، متواكلين على أن هناك غيرهم من الدعاة من يقومون بالمهمة دونهم، فهناك من يفكر عنهم، ويقرر عنهم، بل وينفذ عنهم، عطلوا عقولهم، وأنكروا قلوبهم، وشلوا جوارحهم، وأخرسوا ألسنتهم إلا عن مهاجمة من يريد تحريك ساكنهم، وإحياء مواتهم، وتنبيه حواسهم، متهمين إياه بالاندفاع تارة، وبضعف ثقته بالقيادة والمنهج تارة أخرى!!.

شبهة وردها

ربما يقول البعض - مريحا نفسه من عناء الإصلاح، أو يائسا من إجراء التغيير- بأن هذه الندرة في الرواحل سنة إلهية، وفطرة طبيعية، وناموس كوني لا ينبغي لنا أن نصادمه أو نعمل على تغييره، وأن مسألة عدد العاملين والمجاهدين ليست مطروحة في المنطق الإسلامي، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ... إلخ، ولكن - حسب ما أتصور - أن هذا يصح عندما تكون هذه الفئة القليلة كلها - أو الأكثرية الغالبة منها على الأقل- من الرواحل، وليس العكس، بأن يكون هناك بضع رواحل، والأكثرية الغالبة محمولة على ظهور هؤلاء الرواحل.

والأعداد فعلاً لا نعتبرها عندما تكون المواجهة بين الدعوة وأعدائها من الخارج، مصدقين بقول ربنا، ومؤمنين بوعده لنا، ولكنها لا شك تكون معتبرة عندما يتعلق الأمر بالحسابات الداخلية للمنتمين لهذه الدعوة، والذي يحسبون عليها بأنهم من حملتها والقائمين بشئونها، والمجاهدين في سبيلها.

ولا شك أن ظاهرة المحمولين تؤثر تأثيرا بالغا وخطيرا على سير العمل الدعوي، وعلى إنتاجه، وعلى أفراده أيضا، ومعرفة بعض هذه الآثار قد يدفعنا للسعي الحثيث لتجنبها بعلاج هذه الآفة في الحقل الدعوي، ومن أهم هذه الآثار:

- إعاقة إخوانهم من الدعاة الرواحل، وعرقلة جهودهم، وإبطاء سيرهم، والحد من قدرتهم على الاستمرار بأحمالهم الزائدة.

- إشاعة العدوى بين الدعاة، فقد ينقل هؤلاء المحمولون آفتهم إلى إخوانهم من الدعاة المخالطين، ممن ضعفت مناعتهم، وفترت هممهم، فيصيرون قدوة للكسالى وفاتري الهمم.

- تضييع الأوقات واستهلاك الطاقات في حل ما يثيره هؤلاء الأفراد من مشكلات، مما لو أنفق بعضه في الدعوة لحققت إنجازات قيمة ونجاحات طيبة.

الأسباب أولاً

وإذا أردنا الوقوف على علاج لظاهرة المحمولين، نخفف به عن ظهور الرواحل، ونضيف إليهم من يحمل معهم، فلا بد أن نعرف الأسباب أولاً لنتجنبها، ونحصن الدعاة منها، مع اعتبار أن ظهور كل صنف من هؤلاء المحمولين له أسبابه التي تختلف عن أسباب ظهور الصنف الآخر، ولكننا نجمع في حديثنا بين الصنفين، لأن آثارهما واحدة في الغالب، ومن تلك الأسباب:-

- الوهن القلبي، بحب الدنيا، والغفلة عن الموت والاستعداد له.

- فساد النية عند المنتسب للدعوة، باتخاذها إما وظيفة ينال عن طريقها المال، أو كوسيلة للظهور والشهرة، أو لاكتساب وجاهة اجتماعية، فأمثاله يريدون الدعوة أن تخدمهم، لا أن يخدموها هم، ويعيشون عليها لا لها، مثلهم كمثل الطفيليات التي تتغذى على غيرها، فهم في الدعوة وليسوا منها، والدعوة عندهم - كما يقول الدكتور فتحي يكن - : كالزهرة يضعونها في عروة ردائهم، مصدراً للجمال، يلفتون بها الأنظار، وينتزعون بها الإعجاب، فإذا ذبلت رموها، وبحثوا عن وردة جديدة أو دعوة جديدة، هم الذين يحرصون على أن يُنتخَبوا في كل مجلس إدارة، وأن يمثلوا في كل وفد، وأن يحضروا كل اجتماع.

- تشوش الرؤية، وافتقاد الوجهة، والجهل بطبيعة طريق الدعوة، ومتطلبات السير فيه، والتضحيات الواجبة على سالكه.

- انشغال الفرد بأعماله الدنيوية انشغالاًَ مبالغاً فيه، والنهم في جمع المال، والغرق في تلبية ملذاته وشهواته، وانتقال هذا بتأثير متبادل إلى أهله وذريته (إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15].

- تأثير البيئة التي ينحدر منها الداعية، وطبيعة النشأة الأسرية والمجتمعية، وما تأصل فيه من طباع سلبية، كل هذا قد يترك أثرا في الداعية حتى بعد انتسابه للدعوة، ويأخذ وقتا طويلاً وجهدا جهيدا لعلاجه منها.

- استعجال المربين في الحكم على المبتدئ، من خلال مواقف ومعايشات سطحية، واختبارات تمثيلية غير حقيقية، مما يؤدي إلى الزج به في أعمال ومسئوليات أكبر منه، قبل إنضاجه جيدا، وإكمال تربيته.

ولا شك أن هذه الأسباب كلها منشؤها واحد، وهو ضعف التربية الأولية التي يتلقاها الداعية في بداية ارتباطه بهذه الدعوة، وإهمالها لصالح الأعمال والإداريات، وعدم توفر المربي الكفء الذي يربي الدعاة على نهج سليم، فيقوم بالمهمة أناس إما أدعياء، وإما مساقون مضطرون، أو اضطرت الدعوة إليهم، فألقت بهم لاحتلال مواقع المربين، وهم للتربية أحوج، فيؤصلون في الأفراد قيما فاسدة، ويعطون من أنفسهم قدوات معيبة.

أعراض ومظاهر

فإذا توفرت هذه الأسباب أو البعض منها، تبدأ الأعراض في البروز، وهي مؤشرات ينبغي أن يلتفت إليها المربون ليتعاملوا معها مبكرا قبل استفحالها وتمكنها من الداعية، ومن هذه الأعراض:-

- خفة الهم الدعوي، وعدم استشعار عظمة ما يحمل من رسالة، فالدعوة وشئونها لا تحتل مكانا في قلب هذا الداعية المحمول ولا في عقله، فلا نجده يتأثر إيجابا بنجاح تحققه، أو بفتح قامت به، ولا سلبا بإخفاق تتعرض له أو بمحنة تبتلى بها.

- عدم إتقان واجباته الدعوية، هذا إن قام بها أصلاً، فضلاً عن إهماله وتخليه عن الكثير منها بالكلية.

- الاتكالية والسلبية، وافتقاد الذاتية، فهو لا يتحرك إلا بتكليف، ولا يعمل إلا حرجا من المحاسبة.

- إعطاء الدعوة فضول الأوقات، وفضول الطاقة، وفضول المال، والدعوة لا تقتات أبدا بالفضلات، وتأبى إلا أن تطعم بالمكارم والنفائس (لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92].

- كثرة الأعذار الواهية والحجج الباطلة في التخلف عن أداء تكاليف الدعوة، يسوقونها بينهم وبين أنفسهم، أو يتعللون بها للناس تخلصا من المعاتبة والمحاسبة.

- كثرة النقد بحق وبدون حق، والتنظير الدائم دون عمل، وتلمس العيوب والأخطاء والمثالب، وتضخيمها، دون اقتراح حلول أو بدائل.

- رفض النصيحة، والغضب من التذكير، وضيق الصدر من العتاب.

- الاستشراف للقيادة، وحرصه عليها، وطلبه إياها دون امتلاكه لمقوماتها، والقعود والإهمال إن تولاها غيره.

- الجزع عند الابتلاءات، والانهيار السريع أمام الفتن والمحن، (ومِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ولَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العَالَمِينَ) [العنكبوت: 10].

- المن على إخوانه الدعاة وعلى دعوته بالقليل الذي قد يقدمه، وتضخيم أعماله وإن كانت هينة، وهي في أغلبها هينة.

كيف العلاج؟

وبمعرفتنا للأسباب والمظاهر، يسهل علينا العلاج، فهو لا يكون إلا بتجنب الأسباب والقضاء عليها، والالتفات للأعراض والانتباه لها أولاً بأول، وعلاجها قبل أن تستفحل.

وهذا كله طريقه واحد، هو التربية، ثم التربية، ثم التربية، والاهتمام بتجويد عناصرها، من مربين، ومناهج، وبيئة مساعدة، بشكل متواصل، وبالتوازي مع الأعمال، مع التذكير الدائم بقيمة الرسالة، والغاية، والمتابعة، والتقويم المستمر والمراجعة لكل عناصر العملية التربوية، وتعديل ما يحتاج منها إلى تعديل، اتساقا مع المتغيرات، دون تفريط في الثوابت الحقيقية، لا ما يظنه البعض ثوابت، والمحاسبة أولاً بأول، بالحزم والشدة تارة، وبالعاطفة واللين تارة أخرى، حسبما يحتمل الموقف، مع اعتماد المصارحة والشفافية، في ضوء ما أرشدنا إليه ديننا من أخلاق، وما تفرضه علينا أمانة الدعوة من واجبات.

هذا، وإلا فإن دعوة يعشش في جنباتها هؤلاء المحمولون، ويركبون ظهور رواحلها، أعتقد أنها لا ترتجي بلاغا لرسالتها على الوجه الأكمل، ولا أداء لأمانتها كما ينبغي، وستظل تُستنزف في طاقاتها، وأوقاتها، وأموالها، وكلما زاد عدد المحمولين كلما أبطأت الرواحل، وطال الطريق، ولم تشرق له نهاية، ولم يبزغ لسعيها فلاح.

نسأل الله عز وجل أن يستعملنا ولا يستبدلنا، وأن يجعلنا من الذين يحملون دعوته، ويبلغون رسالته.

5 comments:

Anonymous said...

حق وأرجو ألا يبرر للباطل
إنها سنة الله ان يكون هناك من َيحمل ومن يُحمل والواقع أن الأول هو الصنف الفائز فأنظر لنفسك من أي الصنفين أنت؟؟
ولاتشغل نفسك بغيرك فالكل محاسب عن نفسه فقط
"وما أكثر أهل الأرض ولو حرصت بمؤمنين
أعمل انت إحمل أنت ولاتنشغلن بالآخرين
وفقنا الله الى الخير أجمعين

ابو نظارة said...

أخي أحمد
السلام عليكم
معك بعض الحق فيما تقول ولكن ليس كل الحق
لا معنى في ديننا لقولك ولا تشغل نفسك بغيرك
فانت لو لم تكن مشغولا بي لما كتبت لي هذه الكلمات
والثانية أن كل منا سيحاسب وحده ولكن من الذي قال لك أنك ستحاسب عن نفسك فقط ؟
الم تسمع الى قول النبي صلى الله عليه وسلم "الداعي الى الخير كفاعله "؟
الم تسمع الى آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
الم تسمع الى حديث كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ؟
أنا قد أفهم من كلامك ألا أنشغل بالآخرين لدرجة أن أتوقف عن العمل وأنشغل عنه بتنظير عمل الآخرين
هذا صحيح
كلمة أخيرة يا سيدي
لو كل واحد كتب حاجة رددنا عليه مثل ردك وقلنا له
وانت مالك انت .. وان كلامك حق نرجو ألا يبرر لباطل ، وانت مالك ومال الناس خليك في حالك وانشغل بنفسك وصلح نفسك
وقبل ما تتتكلم على غيرك شوف نفسك الأول
أعتقد أن هذا الأسلوب غير مناسب ، وفيه الكثير من الغلظة الغير مبررة
على فكرة أنا مش زعلان ، بس أنا باقول لك الكلام ده من باب النصيحة
ويارب انت كمان ما تزعلش من كلامي
جزاك الله خيرا على الزيارة والتعليق
وما نتحرمش أبدا من زياراتك وتعليقاتك

Anonymous said...

أخي الحبيب رسمت صورة كاريكاتية لعربة يجرها 4 أحصنة واحد فقط ينوء بالعبئ والثلاثة الآخرين وتكاسلين هادئين لدرجة ان الحصان النشيط يجر تلك الخيول والعربة أيضاً وتلك العربة محملة بأثقال تنوء بالعصبة أولى القوة من الخيول
يأأأأأأأأأأأأأأأأه الله يكون في عون الحصان ده بس ياريت سائق العربة يخللي باله شوية ويصحصح الخيول الكسلانة حتى ولو بالسوط أو يغيرها ويحضر خيول أخرى نشيطة
"وإن تتولوايستبدل الله قوماً غيركم ثم لايكونوا أمثالكم
ولايترك الأمر على حاله ....هل فهمت قصدي؟؟؟؟؟؟؟؟؟
أسأل الله لي ولك وللمسلمين الرشاد

abonazzara said...

أخي أبو مصعب
أنا آسف جدا لتأخري في الرد عليك
بسبب اجازة العيد
تقبل الله منا ومنكم
أخي الحبيب
المشكلة هي هي في كل مكان
وربما طيبة القلب ، والحب الذي يجمع بين قلوب الموحدين هي التي تجعل من العسير على نفسية السائق أن يلهب الخيول بالسوط أو أن يستبدلها
مع أن استبدالها لا يعني قتلها أو طردها من مجالات العمل الأخرى
نحن نحتاج الى عقلية أكثر علمية وأكثر واقعية
ربنا يجبر كسرنا ويرحم ضعفنا
جزاك الله خيرا على الزيارة والتعليق

Anonymous said...

عزيزي الأخ الكريم
جزاك الله خيراً ونرجو المزيد
وكل عام وانت بخير وتقبل الله منا صالح الأعمال