د. علي الحمادي
لم يكن السن عائقاً للتأثير وصناعة الحياة في يوم من الأيام، فكم من صغار فعلوا ما أبهر الكبار، وكم من أناس في سن المراهقة، وأقلّ من ذلك، قد أبدعوا في مجالات شتى، بل وقادوا الكبار وتقدّموا عليهم ونالوا احترامهم وتقديرهم.
وقد مدح الله تعالى يحيى بن زكريا عليهما السلام فقال فيه: يا يحيى خُذِ الكتاب بقوة، وآتيناه الحُكم صبيًّا .
وقال الصبيان ذات مرة ليحيى عليه السلام: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خُلقنا !.
وحين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُنَصِّب إماماً لبعض مَن وفدوا عليه سألهم عن أكثرهم قرآناً، فإذا هو عمرو بن سلمة الجرمي رضي الله عنه، فنُصَّب إماماً لهم وهو غلام صغير، وبقيت هذه المسؤولية لديه، فكان كما قال رضي الله عنه: فما شهدت مجمعاً إلا كنتُ إمامهم، وأُصلي على جنائزهم إلى يومي هذا . ( رواه أحمد)
وقد ولَّى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عتاب بن أسيد أميراً على مكة وكان عمره حين ولاّه عمر نيفاً وعشرين سنة.
ولما قدِمَ وفد ثقيف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولَّى عليهم عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه وأمره بإمامتهم، وكان أصغر الوفد سناً.
وعن عفان بن مسلم قال: قال لي حماد بن سلمة: ألحَّ علينا المطر سنة من السنين، وفي جواري امرأة من المُتعبدات لها بنات أيتام، فوكف ( أي قطّر) السقف عليهم، فسمعتها تقول: يا رفيق ارفق بي، فسكن المطر. يقول حماد: فأخذت صرّة فيها دنانير وقرعتُ بابها، فقالت: اللهم اجعله حماد بن سلمة، قلت: أنا حماد بن سلمة، وأخرجت الدنانير وقلت لها: انتفعي بهذه، فإذا صبية عليها مدرعة من صوف تستبين خروقها قد خرجت عليّ، وقالت: ألا تسكت يا حماد، تعترض بيننا وبين ربنا، ثم قالت: يا أماه قد علمنا أنا لما شكونا مولانا أنه سيبعث إلينا بالدنيا ليطردنا عن بابه، ثم ألصقت خذها على التراب، وقالت: أما وعزّتك لا زايلت بابك وإن طردتني، ثم قالت: يا حماد، ردّ دنانيرك عافاك الله إلى الموضع الذي أخرجتها منه، فإنا رفعنا حوائجنا إلى من يقبل الودائع ولا يبخس العاملين.
وعندما كان الشيخ عبد القادر الجيلاني شاباً صغيراً كان مهندساً للحياة ومؤثِّراً فيها، واستمع إلى قصته ( التي يرويها هو ) مع نفر من قُطَّاع الطُرق وكيف استطاع، وهو غلام صغير، أن يغيِّر حياة هؤلاء العُتاة المجرمين تغييراً جذرياً.
قال الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله: بنيتُ أمري على الصدق، وذلك أني خرجتُ من مكة إلى بغداد أطلب العلم، فأعطتني أمي أربعين ديناراً، وعاهدتْني على الصدق، ولمّا وصلنا أرض همدان خرج علينا عربٌ، فأخذوا القافلة، فمرّ واحد منهم، وقال: ما معك ؟ قلتُ: أربعين ديناراً، فظنّ أني أهزأ به، فتركني، فرآني رجل آخر، فقال: ما معك ؟ فأخبرتُه، فأخذني إلى أميرهم، فسألني، فأخبرته، فقال: ما حملك على الصدق ؟
قلتُ: عاهدتني أمي على الصدق، فأخاف أن أخون عهدها، فصاح باكياً، وقال: أنت تخاف أن تخون عهد أمك، وأنا لا أخاف أن أخون عهد الله !! ثم أمر برَدِّ ما أخذوه من القافلة، وقال: أنا تائب لله على يديك، فقال مَن معه: أنت كبيرنا في قطع الطريق، وأنت اليوم كبيرنا في التوبة، فتابوا جميعاً.
ومحمد بن القاسم الثقفي مَثل آخر لصناع التأثير في هذه الحياة، فقد قاد فتح السند والهند وعمره سبعة عشر عاماً، وعَظُمتْ فتوحه وكثُرت غنائمه حتى قال الحجاج بن يوسف الثقفي: شفينا غيظنا، وأدركنا ثأرنا، وازددنا ستين ألف ألف درهم، ورأس داهر ( داهر هو ملك السند، وقد قتله محمد بن القاسم ).
وفي محمد بن القاسم يقول حمزة الحنفي:
إنَّ المروءة والسمـاحة والندى لمحمـد بن القاسم بن محمـد
ساس الجيوش لسبع عشرة حِجة يا قرب ذلك سؤدداً من مـولد
وانظر إلى الكلمات الواعية التي أطلقتها بُنية صغيرة ذكر قصتها الإمام ابن الجوزي في ( صفوة الصفوة 4/443) حيث يقول: بلغنا أن أمير بلدة حاتم الأصم اجتاز باب حاتم فاستسقى ماء، فلما شرب رمى إليهم شيئاً من المال، فوافقه أصحابه، ففرح أهل الدار سِوى بُنية صغيرة فإنها بكت، فقيل لها: ما يُبكيك ؟ فقالت: مخلوق نظر إلينا فاستغنينا فكيف لو نظر إلينا الخالق سبحانه وتعالى.
وهذا إياس بن معاوية، شاب لم يتجاوز السادسة عشر، كان يسير ويمشي خلفه أربعمائة من العلماء والقادة، فرأى الخليفة ذلك المشهد فغضب وأراد أن يلقّن إياساً درساً في الأدب، فجاء إليه فقال له ( مستصغراً إياه ): كم سنّك يا بُني ؟ فردّ عليه إياس رداً عجيباً مفحماً قائلاً: سني يا أمير المؤمنين كسن أسامة بن زيد يوم أن قاد جيشاً فيه أبو بكر وعمر، فتعجب الخليفة من ذكاء إياس وفطنته وسرعة بديهته وقال: تقدم بورك فيك.
وكم رأينا على شاشات التلفاز من جنود يهود مُدججين بأحدث وأعتى الأسلحة يفرّون أمام أطفال لا يحملون سِوى حجارة صغيرة، ( كأنهم حُمر مستنفرة، فرت من قسورة ). وما عسى حجارة أن تصنع أمام هذه الأسلحة الفتاكة، ولكن صدق الله تعالى إذ يقول في اليهود: فأتاهم الله مِن حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرُّعب .
ولعل من أروع الأمثلة على ذلك ما صنعه فارس عودة، ذلك البطل الفلسطيني الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، حيث وقف أمام دبابة ( الميركافا ) الإسرائيلية وجهاً لوجه بحجارته وهو يتقدم صوبها ويرجمها بالحجارة، وقائد الدبابة يرجع إلى الخلف وقد ملىء قلبه خوفاً وهلعاً أمام إصرار ذلك الشبل البطل.
رجع فارس إلى بيته، وقد صوَّر الصحفيون ذلك المشهد، ونقلت الشاشات العربية والأجنبية تلك الصورة البطولية، ورأى والده شجاعة ابنهما وجرأته فقالا له: لماذا أنت تخاطر بنفسك هكذا؟ فرد فارس قائلاً: غداً بإذن الله سأواجه الدبابات مرة أخرى، وسأضربها بالحجارة والمقلاع لعلِّي أنال الشهادة. وفعلاً، في صبيحة اليوم التالي تكرر نفس المشهد، ولكن أحد القناصّة الصهاينة صوَّب بندقيته صوبه فسقط شهيداً .
مضى فارس إلى ربه في ركب الشهداء، وبقيت ذكراه حيَّةً عطرة، يراه العالم معظم الأيام على شاشات التلفاز، فكان قدوة حسنة للأجيال من بعده ومثلاً رائعاً في صناعة الحياة، وفي أمثاله يقول الدكتور يوسف العظم في ديوانه: الفتية الأبابيل :
حجارة القدس نيرانٌ وسـجـيلُ وفِتيةُ القـدسِ أطيـار أبابيلُ
وساحةُ المسجد الأقصى تموجُ بهم ومنطقُ القدس آيات وتنـزيل