Thursday, October 4, 2007

المستلزمات التربوية لجيل التحدي

الملاحظة الأولى: نسبية هذه المواصفات:

هذه القضية تُبحث بطريقة نسبية، حسب المرحلة التي يكون فيها العمل الإسلامي، والمكان الذي هو فيه. أحيانا تكون الدعوة في بلد ما في مرحلة تأسيسية، فيكون آنذاك من اللازم التجرد للتربية، وتأصيل المفاهيم الأساسية، وصياغة خُلق الداعية الأساسي، من ثبات وتضحية وإخلاص وما إلى هذه المعاني... ولكن تجد في بلاد أخرى قد تجاوزت البدايات ومرحلة التوسّطات وصارت في مرحلة دعوية متقدمة وتواجه أعمال المؤسسات الكبيرة، هنا تكون الصفات التي يتحلى بها إخواننا من جنس آخر. لا نقول أنه لا يكون هناك حاجة إلى الإخلاص، وإلى التربية الإيمانية وأمثال ذلك. ليس هذا هو المعنى، ولكن نقول أنه يُفترض أنها حلت بمقادير وافية في جماعة العاملين، وأنه تلزمهم بعد ذلك أنواع من الكفاءات الأخرى، التي تجعل عملهم عملا مكافئا للحاجة الموجودة، فإذا ركزوا على خبرة سياسية وقضايا تنظيمية، في حين تُركّز الدعوة الأخرى التي في بلد آخر (التي هي في المرحلة التأسيسية)، على قضايا خُلقية وعلى أمور الثوابت. لا يشكل هذا اختلافا في المنهج.

هذه المسألة إنما هي تابعة لطبيعة المرحلة التي تكون عليها الدعوة، أو طبيعة المكان. أنا أتكلم عن دعاة المفروض أنهم تجاوزوا مرحلة البداية، وأنهم كُـلّفوا بمواجهة تحديات النظام العالمي الجديد، وأنهم ينزلون إلى ساحة معقدة، لا الساحة البدائية التي فيها مجرّد التربية ومجرد تزكية النفس، فإني إن خرجت عن هذه المعاني الابتدائية إلى معاني أخرى سياسية وتخطيطية لا يَخطُر ببال أحدكم أنني قد تجاوزت الإيمانيات وأنني ازهد فيها، أو لا أوصي بها، أو لا أحَبّذها لإخواني، بل طبيعة الظرف تقول أنه ينبغي أن نزيد على الإيمانيات هذه الشروط المتقدمة.

هذا استدراك لابد منه، ولا بد أن نذكر أنفسنا به قبل أن نتوغل في مثل هذه الصفات.

الملاحظة الثانية: مفاضلات جزافية:

البعض قد تكون له قدرة للعلوم الشرعية، والبعض الآخر قد تكون له طاقة للتحليل السياسي والممارسة الميدانية السياسية، والبعض الآخر قد يكون صافقا بالأسواق، والبعض الآخر قد يكون على طريقة أخرى. فليس معنى هذا أن يقوم أحد بمقام التفضيل ويقول هؤلاء يحتكرون الصواب، وأما هؤلاء فأهل خطأ، هؤلاء هم الأولى في هذا الزمن وقولهم هو المقدم والآخرون ينبغي أن يتأخروا، أو ما شابه هذا من الأقوال الجزافية.. كلا بل هم حَلقة مُفرغة ليس فيها ضلوع، على بُعدٍ مُتساوٍ من مركزها ومن نقطة المحور.. فكل العاملين للإسلام فيهم خير وفيهم نوع من الطاقة التي تتكامل.. وتلك سنة الله.

مواصفات جيل التحدي:

أنا أرى أن هناك جملة من الصفات يمكن أن يتحلّى بها الداعية الذي يواجه هذا النظام في هذا المجتمع المعقد، أولها ما أسميه: التربية على المنهجية.

أولاً: التربية على المنهجية

تعريف المنهجية:

المنهجية إذا عرّفناها لا يمكن أن تحصرها المعاني حصرا دقيقا، وإنما هي أنماط في التعامل يُدركها من يُعاني التعلّم الطويل، أو من يُعاني تنفيذ مسألة مستمرة. كيف يتناول هذا العلم؟ أو كيف يتناول تنفيذ ذلك الأمر؟

نرى أن المسألة المنهجية قضية من باب تجريبية، أي بمرور التجربة تنمو. المعنى المُهمّ الذي فيها أنني ما أهجم على الأمر هجمة واحدة، بدون أن أضع أولويات وبدون أن يكون هناك تدرج.

أسس التناول المنهجي:

التناول المنهجي يتطلّب منكم أن تضعوا:

أولا: جذور المسألة العميقة.

ثانيا: الإحاطة بالأمر الواقع بنظرة شمولية، وليس من خلال زاوية معينة.

ما أريده من هذا الواقع ليس مجرد معرفة خبرية، بل تراد لتطوير الأمر وفق مفاهيمك، ووفق مصالحك، بحيث يصب في واديك. فإذاً هو عمل تَسعى له ويؤثر في المستقبل. فأنا لا أدع المسألة تسير بنوع من التلقائية، المهم أنني وفق ثوابت فكرتي ووفق ثوابت مصلحتي أن أفهم ما هو هذا الواقع وإلى ما يُراد تطويره؟ هذا في خلاصته التناول المنهجي للقضايا.


نواقض المنهجية:

المفاضلات الأحادية:

الحذر من الدخول في المفاضلات الأحادية، أعني أنه يكون هواك في مسألة وفي جانب، فكأنك تفهم الواقع والمستقبل وفق هذا الجانب.

مثلا: ما يقال: أيّهما أهم العلم أم الأدب؟ هذا سؤال في أصله فاشل. سؤال في أصله يهدم حقيقة من حقائق الحياة. الأدب مُهمّ والعلم مُهمّ ، وهذا له مجال وهذا له مجال.

فالقضايا تحكمها النظرات النسبية، وتقيس على ذلك المسائل في قضايا الحياة جميعا.

لا بد أن نعترف بالموازين النسبية في فهمنا لطبيعة الحاجات الكبيرة، وأن بينها تكامل.. ما لم نفهم الحياة بهذه الصورة فإننا نقع في التفسير الأحادي الذي يفهم الحياة في الجانب الذي يكون هواه.

أحادية التفسير هو دائما النقيض لمسألة المنهجية، والتَّقيّد في الفهم من غير نسبيّة هو نقيض المنهجية.

قيمة المنهجية:

- المنهجية تضاعف قيمة العمل، فالعمل الذي يجيء في مكانه المناسب، أو وقته المناسب يكون أكبر بكثير ممّا لو يكون في وقت آخر.

الثمرة الكبرى لهذه المنهجية أنها توفر الطاقات، وتجعل للعمل الصغير أثرا مضاعفا.

ثانياً : التربية على كسر القوقعة والخروج إلى الحياة الفسيحة، والتفاعل الاجتماعي وتحقيق الكتلة البشرية الإسلامية الضاغطة في معترك الحياة

في أوّل تأسيس الدعوات في أقطارنا، تَعوّدنا على أن نكون بعضا مع بعض في البيئة المسجدية، وأن نعيش في بيئة تُعمّم العفاف، خاصة إذا كان هناك نوع من الفساد في المجتمع، فعلّمونا العيش الانعزالي الذي فيه حصانة لهؤلاء الشباب الذين ينعزلون، بحيث أنّه يبقى وفياً لإسلامه، وفياً لأخلاقه، فيتطبّع هذا الأخ تدريجيا بهذه الطبيعة، حتّى أنه لا يأنس بغير بيئة المسجد، ولا يأنس إلا في بيئة إخوانه الأقربين، يستروح لهم لأنه يجدُ خُلُقاً عاليا، ويُصبح كارهاً لما هو خارج هذا المحيط المسجديّ من الناس الذين فيهم مصلحيات، أو يصبح خائفا من الآخرين، إما يغرونه بفساد أو يغرونه بإلحاد وما أشبه، فيكون كما في المثل، كأنه بيضة هشة والآخرون كأنهم حجارة صلدة.

أنا لا أنكر أن هذه التربية هي ضرورة، وأنها عصمتنا في شبابنا الأول، ولكن مع الأيام الصف الإسلامي توسع وتقادم عهده وتخرجت أجيال.

لِمَ لا تُفكّر بأن الأخ الذي عمره عشرة إلى عشرين سنة في الدعوة، إذا خرج إلى المجتمع سيكون هو الحجارة ويكسر تلك القوقعات، ويكسر تلك القيود؟ !

الإسلام هو الحُجّة الأقوى في الحجج المتصارعة، وصاحبك متحصن بهذه الحجج الإسلامية القوية فلا تخف، أضف إلى ذلك أننا في موطنٍ السّياسةُ فيه تستدعي حملة ضغطٍ، وتركيز للقول، وإسناد بجمهور وافر عريض مُنساب في الساحة.

نحن بين مصلحتين أو بين مفسدتين متعارضتين، المصلحتين المتعارضتين: مصلحة أن نبقي على الدرجة العالية من أخلاقنا، ولكن في القوقعة الصغيرة المسجدية، أو البيئة الطاهرة التي نرتضيها في أي مكان، ومصلحة أكبر أن ننتشر في الأفق، ونأخذ من الآخرين الذين هم دون هذه الصفات.

ينبغي أن يكون هناك نوع من الموازنة، وأغلّبُ المصلحة الأكبر. المصلحة الكبرى تقول أن منطق السياسة لا بُدّ له من عدد وافر، ولا بد له من جماهير تتسع، فإذاً أنا أتسع بهذه الجماهير وأبقي القيود بيدي.


ثالثاً التربية على الإيجابية والإبداع

كان الداعية في زمنه الأول متلقّياً، يُراد منه حسن التلقي، يُلقى له الكلام الإيمانيّ، يُروَى له خبر الأولين، ويُراد منه أن يحسن الاستماع، ويفتح القلب لتلقي مثل هذه التربية.. هذا أمر جميل وهو الأساس في صياغة العناصر الإسلامية، لكن ينبغي أن لا ننسى أن هذه هي المرحلة الأولى (المرحلة التأسيسية)، أما بعد ذلك فنحن نريد من الأخ أن يكون هو قائلا، هو الذي يُربّي غيره.


لمّا نقول التربية بالتلقي ليس معناها فقط اللسان، أنك تقول مفردات العلم فيسمع، اليوم التربية هي عملية متكاملة فيها هذا التلقي، وفيها أيضا المسائل العملية التي تؤخذ من خلال المباشرة والمعاناة والانصباغ العملي بذلك، وفيها قضايا أخرى، أنك تدير العمل بواسطة مجموعة عاملة في مؤسسة، بنظام إداريّ، كقضية صحفية أو مشروع مشترك مع الآخرين ... فقضايا الحياة تتنوع وليست قضية التربية التلقينية هي النوع الوحيد فيها، أن تتربى من أعمالك اليومية في المؤسسة، أو تعاني معاناة في عمل صعب.. من هذه تتربّى.

إن الحياة متنوعة، وتفاصيلها كثيرة، ولابد لنا من أن نوجد نموذجا هو الذي يعرف ماذا يليق لكل حالة من الحالات، وهذا الذي نعنيه بالإيجابية، فالبعض يبقى ينتظر حتى يؤمر فيتحرك، والبعض يأخذ وَصْفات جاهزة، فإذا لم تصله الأوامر من قادته يبقى بدون حركة، يصير له سنوات طويلة في الدعوة، ولكن لا يتحرك إلا أن يُقال له تحرّك وهذه خطة التحرك، وهذا يمينك وهذا يسارك.

بالأول كان في التجنيد الإجباري في بلادنا المتخلفة يأخذون القرويين ويعلمونهم اليمين واليسار.. يقولون لهم يمين دُر أو يسار دُر، فأنذاك لا يعي هذه الأمور وهو قروي.. يمسكونه حجارة في كفه ، فيعلم أن التي فيها الحجارة اليمين، فإذا قالوا له: إلى اليمين در، بسرعة يشتغل الكمبيوتر وأدرك أن اليمين هي التي فيها الحجارة! الحجارة التخطيطية دائماً في يده، أما هو أن يكتشف الجهات الأربع وأن ينظر في السماء إلى النجوم ليقود نفسه كما يقود نفسه الغزال أو الذئب بالفطرة التي هو عليها، ما يستطيع ذلك... كلا أيها الإخوة .. الإيجابية مطلوبة عندنا .. أنت نقطة البداية والنهاية في هذا العمل .. أنت عالم مستقل بذاتك، لو فرضنا أنك في جزيرة وحدك أتنتظر رسائل وفاكس وتلكس ليقال اعمل كذا وانظر كذا...

المبادرة الذاتية والإيجابية والابتكار والاختراع ونفسية التملص من الحصار ونفسية التمرد على الواقع المتخلف ونفسية الاستشراف.. هذه أخلاق أساسية في تكوين خلق الداعية المسلم اليوم. و إلا يكون طبعه من نسخة واحدة متكررة.. نريد العنصر الذاتي المنوع في ابتكاراته.. وكم وضع بعض الناس في أماكن يخدمون الأمة بكاملها من خلال المبادرة الفردية، والقضايا في هذا والتمثيل يمكن أن يستطرد ولكننا محدودون بالوقت.

أنا قد كتبت سابقاً في القصص الإسلامية، بطولة حسين رؤوف قائد البارجة الحميدية في حرب البلقان سنة 1912م، وهو في الأسطول العثماني، لوحده اخترق الحصار البحري اليوناني وذهب إلى ميناء يسمى ميناء سييرا وفعل فيهم ما فعل لأنه فاجأهم في الخطوط الخلفية، دمر الميناء.. ثم قفل راجعاً، لم يعترضه أحد، ولكن لا يستطيع فك الحصار مرة ثانية، فرجع إلى الإسكندرية، ثم إلى بيروت طيلة مدة الحرب حتى انتهت، فجاء إلى الدردنيل وإلى البوسفور ظافراً مظفراً واستقبلته الأمة كبطل تاريخي، وصار بعدئذ وزيراً للبحرية في أيام الحرب العالمية الأولى، ثم لما صارت النكبة على الأمة واحتلت بلاد الإسلام، عمل مع مصطفى أتاتورك على تحرير بلاد الإسلام من اليونان والجيوش الإنجليزية.. دارت حروب كان بطلاً فيها، فصار رئيساً للوزراء في تلك الأيام، ثم لما أراد أتاتورك إلغاء الخلافة، تمرد عليه وأبى، وقال أنا مسلم ولا يمكن أن يكون ذلك، فاختلف معه وعاش طيلة حياة أتاتورك منفياً في باريس، فلما مات أتاتورك سنة 1936 ، رجع إلى تركيا ولما رجع إلى تركيا وجد نفسه معززاً مكرماً مرة ثانية، فعينوه سفيراً لتركيا في بريطانيا.. بقي سفيراً طيلة الحرب العالمية الثانية. يقول: تشرشل يحاول إغرائي، لأقدم تقريرا إلى حكومتي للموافقة على دخول الحرب إلى جانب الحلفاء، ولكن كنت أرى أنه لا مصلحة لتركيا في ذلك وأريد أن أحفظ بلادي. وفي الديمقراطية التركية أن البرلمان لو أراد شيئا ولم توافق الجهة المختصة فإنه لا عبرة لهذا القرار.. يقول: أن تشرشل عمل العمل الكثير على إغراء نصف البرلمان أن يوافق بالرشوات ، قد وافقوا على دخول تركيا الحرب ، يقول : ولكن تقريري لم يتبدل وجنبت تركيا الحرب ، وبقيت طول الحرب على الحياد وأخرجها سالمة من براثن الحرب، وما استطاعوا أن يفعلوا شيئا ، يقول : حتى تشرشل دعاني ودعا كثيرين وعمل وليمة وقام وخطب ومجدني تمجيدا عظيما على أمل أن أنصاع، وأكتب تقريري بدخول تركيا في الحرب، ولكن لم أفعل ذلك...

دعك من البطولة الأولى، لكن أنظر مقامه في الإباء إذ هو سفير، كيف أن موقف رجل واحد، قد عصم الأمة من تردي اقتصادها، وعصمها على أن تكون وقود حرب، وعصم نفوسا وأرامل وأيتام، وجنب تركيا مزالق السياسة ومتاهاتها في تلك الأيام، وهو فرد واحد.

هذه نسوقها، ولو هو مثل كبير، والداعية قد يزدري نفسه ويقول: لست بسفير ولا بطل وما عندي بارجة حميدية... لا، نحن نسوق الأمثال والقصص لا لتكرر ولكن في متقارباتها، ما تدري أنت ما يخبئ لك القدر.. أتظن في نفسك أنك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر. كما يقول الشاعر.

أنت عالم كبير أيها الأخ، وعزيز بإيمانك، ويمكن أن يسهل الله عليك أن تكون في موطن من المواطن التي تملأ بها الأرض عدلا كما مثلت جورا، تملأ فيها الجامعة أو المؤسسة التي أنت فيها منهجية وأخلاقا وتوفيرا للأموال بعد تسيب وتهور ولا أبالية، يمكن أن تكون أنت مثالا للشباب، في أيام انسحاب وهزيمة وفتور.. يمكن أن تكون أنت مثالا لابتكار مشروع إنمائي ناجح إذ الأموال في العلم الثالث تهدر وتحوّل لهم طبيعة استهلاكية أمريكية، هي من متممات النظام العالمي الجديد. أنت كبير بمقدارك، تستطيع فعل شيء كبير لدعوتك ولأمتك. لا تزدري نفسك، لو نظرنا إلى أنفسنا أننا نقاط بداية ونهاية، وأننا يمكن أن نفعل الشيء الكثير، لأذن لنا ذلك، والحياة ما هي إلا شيء منك ومن أبناء عمنا وخالاتنا وجيراننا ومعارفنا الآخرين. من هم الذين يقودون الحياة؟ لم تفترص أن الأمير الفلاني أو الديكتاتور الفلاني... في ظل الديكتاتور أستطيع أنا أن أعصم البلاد من أشياء كثيرة، كعمل هذا الرجل الذي قلناه حسين رؤوف صاحب البارجة، أو غيره وغيره.

رابعاً : التربية على الأصالة الشرعية والتوسع في العلم

هذه المسألة كثيرا ما ينساها دعاة الإسلام، يعرفون من الإسلام العناوين المهمة، يعرفون من الإسلام العاطفة والإيمانيات الدفاقة، ولكنهم لا يذهبون إلى أبعد من ذلك بتعلم الموازين الشرعية والقواعد في تعارض المصالح والمفاسد، وفي سدّ الذرائع وحكم الضرورات وفي رفع الحرج وأمثال ذلك مما قاله الفقهاء، وأن هذه المسائل بعضها ثوابت شرعية لا يمكن التنازل عنها، وبعضها متغيرات يمكن أن يتعدد فيها الاجتهاد، حسب الزمان والمكان والظرف والمصالح... كما قال الفقهاء.

هذه القضايا والتمييز بين الثابت والمتغير لا يأتي إلا بمطالعات شرعية متعمقة وليست في كلمات يسيرة تؤخذ من أفواه المتكلمين. في المؤتمرات نأتيكم ساعة ونتكلم وتطربوا لهذا الكلام ثم لا شيء بعد ذلك. كلا حَنيُ الظهور فوق هذه الكتب العلمية الشرعية ذات الأوراق الصفراء القديمة التي بدأ البعض يزهد فيها هو مظنة وجود العلم النافع ومظنة وجود الأصالة في التلقي.

هذه القضية أكبر أمثلتها أيها الإخوة ما جرى من هذا الزلزال في الخليج.. قضية الكويت، لو كان عند الجميع الأصالة الشرعية التي تميز معنى العدوان، وتميز معنى الأمة الإسلامية ووحدتها، وتميز معنى الاستعانة بالمشركين وعدم جوازه وأنه لا يجوز إلا في الحدود الضيقة من استعمال سلاح أو استخدام دليل أو ما شابه ذلك... لو اتفق جميع الإخوة وقتها على هذه المعني، وهي مبثوثة في الكتب، ميسورة لمن شاء، بمدة يد قصيرة واحدة إلى أي رفّ في المكتبات الشرعية تستطيع أن تستخرج هذه القضايا، لوفر علينا جهد كبير ولاصطلحت القلوب، ولما حصلت التعكيرات ولما تبدلت القلوب بعضها على بعض.. ما حدث ماهو إلا نوع من هجران هذه العلوم الشرعية وعدم الركون إلى الأصالة.


المسألة أبعد من ذلك وإنما هذا المثل الصارخ الذي أتينا به، وإنما نحن في أيامنا وليالينا.. عمل اليوم والليلة يحتاج إلى شيء كثير نعرف به مثل هذه التفصيلات في الأصالة..

طريقة التربية مثلا، على ماذا تربي وما هو الثابت والمتغير في المعاني الإسلامية الأصلية في القضايا التربوية وتزكية الأرواح وما إلى ذلك.

القضايا التي هي أبعد من التربية، مسألة الفكر، من نحن وما فكرنا؟ وبأي الموازين نزن الأفكار الأخرى المطروحة كالرأسمالية والقومية والديمقراطية والشيوعية وغيرها؟ نعرف فقط أن الشيوعية لأنها إلحاد صارخ أنها من الحرام ، ولكن لا نميز ما في ثنايا الديمقراطية من مشابهة في معاني الحرية بينها وبين الإسلام، أو بينها وبين الرأسمالية ساحة مشتركة في الحرية الشخصية في استثمار الأموال، ثم لا نميز ما فيها من معاني الربا ومعاني الاحتكار ومن معاني أخرى تخالف قضايا الإسلام... ففكرنا الذي نطرحه يراد أن يعتصم بهذه الأصالة، وعملية التأصيل، بينت الأيام أنها كانت ضعيفة في ساحتنا الدعوية، بعد أن كنا نظن دهرا أنها قوية وأنها وافرة وموجودة بالمقدار الكافي. بينت أحداث الكويت أنها لا. موجودة بمقدار ناقص، وفضحنا فضيحة ينبغي أن نتوب منها، وينبغي أن نرجع إلى تعلم أصول العلم الشرعي وأن نجعل هذه المسألة بابا لمحاسبة النفس وبابا لاستدراك الأخطاء، وليس من عيب في ذلك. العيب هو الإصرار على الجهل.. حاشاكم. ولكن مسألة الأصالة ما تزال ديدن المربيين، وألفت مؤلفات تعين على ذلك، ومن آخر ما رأيت من الكلام اللطيف لأخينا عصام البشير في مسائل شرح الأصول العشرين والأستاذ جمعة أمين كتب في شرح الأصول العشرين أيضا أشياء لطيفة في هذه القضايا، وكتب الأستاذ علي عبد الحميد محمود في فقه الدعوة إلى الله أشياء من هذا القبيل، وكتب آخرون من مجموع كتاباتهم يمكننا أن نتعلم المعاني الأولية للأصالة، وفي كل كتب الفقهاء والتراث القديم زيادة وتفصيل آخر نرشح لكم أن تقرأوا فيها كائنا ما كان المذهب، كن شافعيا أو كن مالكيا . ستصل في النهاية إلى نتيجة واحدة ورؤية مشتركة.

No comments: