مُـنذ أيام طفولتي : كنتُ فتىً ليس مثل بقية الفتيان ، بل أميل إلى الوقار والجد والسكينة ، إذ صحبي وأقراني يتداولون الهزل الرخيص ، والكلام البذيء ، والشتائم ، ويحفظ أحدهم قائمة طويلة من الألفاظ العدوانية التي تتهم أعراض الناس ، وأنسابهم ، ويخلطونها بكذب ، ولكني بقيتُ على عفاف اللسان ، والبراءة من الإقذاع ، والصدق ، ولا أذكر أبداً أنـي خنت أحداً ، أو كذبت عليه ، مع وفور الطاعة لأساتذة المدرسة ، واحترام من هو أكبر مني ، وما كنتُ كسولاً ، بل أشارك أقراني لعب الكرة ، والركض ، ولا أغيب عن السباحة ولا ليوم واحد في العطلة الصيفية ، وأنا سبّاح ماهر عبرتُ دجلة وعمري ثماني سنوات فقط دون الاستعانة بأحد ، يوم كان دجلة وافر المياه عريضا ، وتجوالي على الدراجة الهوائية يملأ نصف وقتي ، وكانت دارنا في الأعظمية بجنب بعض بقايا بستان أصلان باشا ، فشبعتُ في طفولتي من الرُطَب والنبق ، نرميه بالحجر أو المصيادة فيقع ونلمّه ونأكله بلا غسل ، بل بالنفخ عليه ، ومع ذلك إذا رجعتُ إلى البيت يضع شقيقي الأكبر مجلة الرسالة للزيات في يدي وآتي عليها من الغلاف إلى الغلاف ، وأنا لا أفهم منها إلا قليلاً ، ولكنْ تترسب منها في اللاشعور بعض معانيها ، فتَضاعفَ سَمْت الجدّ الذي فطرني الله عليه ، وما كان هناك تلفزيون يلهينا في ذلك الوقت ، بل كان افتتاح محطته في أواخر سنة 1954 بعدما جلبته شركة بريطانية إلى معرض بغداد ، فاشترته الحكومة منها ، وكانت قضية فلسطين تلك الأيام في ذروة الاهتمام ، وانعكس ذلك علينا في صِبانا ، وحدثت مظاهرات إسقاط معاهدة بورتسموث ، فزاد انفعالُنا وتداولُنا لحديث السياسة مبكراً ، وبدأت المطابع تنـتـج كتباً عن تاريخ الحرب العالمية الثانية وقصص رومل وغيره ، فتضاعف اهتمامي ، حتى وجدت نفسي في صفوف الدعوة وأنا ناشئ في المدرسة المتوسطة .
فأضافت النقلة الدعوية حَفنـتين من الجد والصرامة إلى ما منـحتني إياه الفطرة والظروف السياسية المتأججة ، بحيث يتداول معنا مربونا أخبار الدول ، والجهاد ، وأوصاف جـِنانٍ وفَراديسَ يحتلها الشهداء وأبطال القتال في فلسطين وقناة السويس ، ثم لما سرنا مرحلة اُخرى ودفعونا إلى مجالس العلماء ودراسة صحيح البخاري على الشيخ عبد الكريم الملقب بـ الصاعقة سَرَتْ إلينا روح صواعقية تقلقنا عن الهزل والمزاح وكثرة الضحك ، ولما شرعنا نـحضر دروس وخطب الشيخ الدكتور تقي الدين الهلالي بدأنا نـُدرك اختلاف المدارس الاجتهادية الفقهية ، وانـحزنا لأقوال ابن تيمية ، وأصبحت لنا جولات عريضة مع مدونات ابن قيّم الجوزية ، إذ ما يزال أترابنا يسرحون ويمرحون ويقتربون من باطل اللهو وينـحدرون إلى رخيص الآمال والقول ، وازدادت أشواقنا إلى الجنة لما وُضع في أيدينا حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم ، وبلاد الأفراح هي : الجنـّة ، لما فيها من خيرات تجلب السرور للمتـنعم بها ، فزاد عُلوّاً مستوى اهتمامنا ، وصرنا خَلقاً آخر ، يسوقُنا طموح ، وتسيطر علينا رقابة ذاتية ، ونتج جيل من الشباب كأنهم شيوخ ، يتجردون في عصرٍ ماديٍ كثيف الإغراء ، لكنّ مسارح الحلال بقيت واسعة علينا ، وكنا أشدّ متعة بعواطفنا من مستعجل رَسَف في أغلال الدنيويات ، ونتج من هذا التصاعد التدريجي استواءٌ لنا في فَلك الجد والمثـابرة الدائـبة ، وامتلكنا حصيلة من الأشواق الاُخروية ، والنظر إلى ثواب عند الله تـتضاءل عندما نتصوره ملذات الدنيا الحلال فضلاً عن الحرام ، لأن المهمة الإصلاحية التي حُـمِّـلنا إيّاها تجسمت لنا وأقنعتنا بأنها عملية ضخمة تـتطلب نذر النفس ، وكثرة التعلّم والتفكر ، والجلوس المتكرر للنظر في مصالح المسلمين ، ومن طول الوتيرة الجادّة : تحوّلت إلى سلوك تلقائي غير متكلف .
هنا ، وفي ثنايا هذا الاندماج القلبي الروحي مع المهمة الجبارة الدعوية بدأت تسري عندي حالة اجتهاد في تحديد المذهب الأخروي الذي يُسيّرني ويدفعني ، هي فرع من الاجتهادات الفقهية التي تـتمايز بها مذاهب الفقهاء ، وتشكلت لديّ وفي مُخيّلتي صورة الحياة التي اُريدها في الجنـّة ، وجعلت أقول لنفسي : ويحك من مشترٍ لشيء مجاني مبذول ! !
لقد تكلمت الآيات والأحاديث الصحيحة عن قصور وحدائق في الجنة ، وأنهار ، ولَبَن وعسل مصفى ، فلماذا تشغل نفسك وهي مضمونة ، وتكثر الدعاء أن تكون هذه الخيرات من جُملة ما يُمنـح لك وهي أدنى الجنة ربما ، لكنْ اطلب الجنة في دعائك وسَل الله شيئاً فيها مُبتكراً تحبُّه وقد فاتك في الحياة الدنيا إلا قليلا ! !
ويكون إلحاح من الصالحين أن يرزقهم الله الحُور العـِين الحِسان ، فأقول لنفسي : ما هذا والأمر أسهل ؟ بل ادع الله أن يـميتك شهيداً ، منـحةً منه لما يعلم من عفاف وبذل ، فتزف الشهادةُ لك سبعينَ حورية ، وعندئذ اختارُهنّ عشر عربيات ، وعشر غربيات بيض ، وعشر زنجيات سود ، وعشر صينيات ، وعشر يابانيات ، وعشر فلبـينيات ، ثم البقية من الأمم الأخرى .
وكل ذلك إنما هو هامش ربح الجنة ، ولكن أطلب اللذات الكبار ، ورأس المال ، والعوالي ، والنوادر ، والغرائب ، والامتيازات ، فإن النشوة في هذه .
وأول أشواقي : إلى الخيل العربية الرشيقة ، فإني اُريد أن يكون لي فَرَس أدهم أسود يلمع كأنه فحمة ، وآخر أبيض كأنه قُطنة ، وأبلق يجمع بُـقَعاً من السواد على البياض ، فيسبحنَ بي في براري الجنة الفسيحة سويعاتٍ كل يوم ، وقد حُرمت من الفروسية في الدنيا ، ولم تـُتح لي رغم شدة شغفي ، فلعل الله سبحانه يَمُنّ بها عليّ ، حتى إذا امتلأت نفسي من ركوب الخيل عند الضحى العالي : أردفتُ واحدة من نسائي خلفي ، واخترقت غابات الجنة ، ليكون إيابي ظهراً .
لكني في بعض الأيام اُريد أن تـُسرع بي دراجة نارية أو اُسابق جيراني ، فإني محروم منها كذلك ، حتى أميل عند الاستدارات وإن ركبتي لتكاد تلامس الأرض ، كما أرى في التلفزيون .
وساعة أتجول بمنطاد لأرى تضاريس الجنة من سمائها ، وفي أخرى أهبط بالمظلة وأتقلب في جو الجنة ، وفي يوم ثالث تُحلق بي طائرة شراعية فأطوف حول الجبل البعيد .
إلا أن ذروة لذتي تكون في أن أقود عشرة من أصحابي ، في زوارق صغيرة ، نـناحر تيارات أنهار الجنة في عمق غاباتـها وبين جبالها ، فإني كنتُ دعوتُ الدعاة إلى مغامرات مثيلة في أنهار آسيا والأمازون والـمِـيسسبي ، ولكن تطويق العمل الإسلامي لنا في زمن الأزمات والحاجة إلى كثرة الاجتماعات منعتنا من ذلك ، وقياداتنا يابسة لا ترى في مثل هذه المغامرات تربية لنا وتنمية لشخصياتنا ، فلم تأذن لنا ، ولعل ولعي بذلك إنما هو صدى لكثرة السباحة في دجلة في صباي وأول شبابي ، فاُريد أن أستعيد الذكريات ، إلا أني أخاف الثعابين جداً ، وقد أخبرني شيوخي أن لا وجود لها في غابات الجنة .
وكل ذلك تمهيد وتحريك للفكر ، فليست خُطتي في الجنة خطة طعام ولهو ، ولكن أهل الإبداع يقولون أن ومضاته لا تـتألق إلا من خلال قوادح المغامرة وتبديل البيئة وعنفوان الحركة وتجديد المناظر ، فجعلت فروسية الخيل والدراجات والمناطيد والمغامرات سبباً لتحريك عقلي وذكائي ، ومقدمة لنيل لذّتي العظمى اليومية التي أريدها على مدى عشرة الآف سنة من امتداد الخلود ..
لذتي الكبرى ومطلبي أن تكون في قصري في الجنة مكتبة إسلامية ومعرفية وعلمية وفنية ، كاملة لا نقصان فيها ، فآخذ القرآن الكريم أولاً ، وأجلس عند عتبة باب قصر عبد الله بن عباس أنتظر خروجه ، لأطلب منه التلمذة وأن يأذن لي بدرس يومي عصراً على مدى سنين يشرح لي أسرار القرآن ، ولغته ، وأعاجيبه .
حتى إذا شبعت من علمه : دققت باب الطبري ليمنـحني المزيد من معاني القرآن وفقهه ، وألبث معه السنوات الطويلة قبل أن أتحول إلى القرطبي ، والزمخشري ، والآلوسي ، وابن عاشور ، وسيد قطب ، وكل منهم يزيد لي حروفاً وفوائد ، حتى أستوفي علم القرآن من مائتي مُفسِّر ، ودفاتري معي ، وقلمي خلف اُذني ، ونعلي خفيف ، على هيئة طُلاب العلم التلامذة ، فإني حُرمت مثل هذه المجالس في الدنيا إلا قليلا ، واُريد أن أشبع وأنهل ، غير أن أخي خُونا الجَـكَني في تـِندوف بصحراء الجزائر ، وأخي غلام السائح ، قد أغرياني أنّ ثـَمَة علم ولُغة في حاضرة شنقيط بموريتانيا ، فأنا أريد لذلك أن أمكث في الخاتمة عند الـمُفسّر الشنقيطي مدة أطول ، وأن أذهب له في الجنة على ناقة ، وأن التقي به في صحراء الجنة ، وكان أستاذي الدكتور جعفر شيخ إدريس يُحدثني عن شيخ له في السودان يأبى إلا أن يأتي إلى مجلس التدريس على ناقة ، مبالغة في الحفاظ على صورة الحياة السلفية ، فاُريد أن أقلده .
فإذا استوفيت دلائل الفرقان وإعجـازه : تـنـاولت من مكتـبـتي مدونـة الحديث النـبوي الشريف الكـبرى التي استـخرجـهـا حبـيـبي البخاري وسمّاها الجامع الصحيح ، فلا أحتاج إلى انتظار ولا إلى دق الباب ، بل أجده ينتظرني مبتسماً متطلعاً مشتاقاً ، بما وصله من خبر عنّي ، وعن ولعي بالحديث وعلم الرجال ، وبشرطه الذي تعمقت فيه وصار يُسمى بين العلماء شرط البخاري ، وهو يؤخذ بالاستقراء والاستعراض لا بالنص ، فبعد ساعة أطلب فيها منه أن يريني دِقّة رميه بالسهم فيُصيب الهدف عشرة على عشرة ، بالكمال ، ينفد صبري فأطلب منه أن يبدأ رواية صحيحه عليّ ، مع الشرح وبيان أحوال السند والرجال ، فأمكث معه السنوات حتى أحفظ ما هنالك ويجيزني ، وأرجع إلى حورياتي أبشرهن ، وأمشي بينهن مشية الخُيلاء والزهو ، وأتطاول على صاحب لي حَبَسَ نفسَه عند الضفة يشرب ، ويأكل لحم الطير والعنب ، وعاف صحبة البخاري ، مع أني أعطيته عنوانـَه ، هناك بين البُحيرة والجبل المنيف .
ثم أستأذنُ البخاري أن أطوف على الإمام مُسلم لأقرأ عليه صحيحه ، وعلى أبي داود والنـَسائي والترمذي وابن ماجة والدارقطني وأبي حاتم ، في مائة من أصحاب المدونات الحديثية يروون لي أسانيدهم مباشرة ، ليعلو سندي ، ثم بطبقات الشرّاح ، ابن حجر العسقلاني والنووي ، في ثلاثة آلاف من أهل العلم وتأويل الحديث ومعرفة الرجال وتأصيل الاجتهاد ، واحداً بعد الآخر ، وقلمي ينسخ ، ونـَفَسي محبوس ، وتحرّشاتي بهم لا تنقطع ، ألاحقهم بالسؤال ، وأستخرج من كل جواب سؤالاً جديداً ، حتى تنقضي ألوف سنين ، وهم في الفرح الغامر ، أنهم وجدوا مستهلكاً شارياً ، وتلميذاً دائباً ، ومكافئاً في الحوار .
حتى إذا استوفيت غرضي من هذا الفيلق : أرسلتُ شفعاءَ إلى الخلفاء الراشدين أن يأذنوا بزيارات ، فأتأدب ولا ألحّ بسؤال ، فيروا أخلاقي ، فيتبسطوا ، ويشرعوا في الملاطفة ، فتدبَّ فيّ الشجاعة رويداً رويداً ، حتى إذا شبعتُ : تحولت إلى بقية الصحابة ، الأول فالأول ، والأعلم فالأعلم ، فيروون لي السيرة ، وأخبار بَدْر واُحُد والمعارك والغزوات ، والشهداء ، وحياة مكة والمدينة ، ووفود العرب ، وأخبار معارك القادسية واليرموك وكلّ الفتوح ، ودخول الأمم في الإسلام ، ونشوء جيل التابعين ، ومَن قَاتل منهم بشجاعة ، ومَن رَصَـد نفسه للعلم ، حتى أنزل إلى مالك وأبي حنيفة والشافعي ، فامكث عند كل واحد منهم الدهرَ الطويل ، يعلمني فقهه وأصول مذهبه وأسباب اجتهاداته ، وتكون أيامي مع مالكٍ بخاصة مخلوطة برحمة له ، لأنه كان مصاباً بسُـكّر الدم مثلي ، وهو يحب الحلواء مثلي والرُطب ، ولا يستـطيع الإكـثار منـهما ولا أستـطيع ، لذلك أتـعـمد أن التـقط له قبل كل زيـارة ما يملأ طبـقاً من البرحي و الخلاص و بقلة النارِين و الخستاوي و المجدول وأنواع رُطَب الجنة وأهديها له ، مع أنواع حلوى بالزعفران أوصي زوجاتي أن يصنعنها له ، فإنه يحب ذلك ، مُذ أهداه الإمام الليث بن سعد حمل سفينة من الزعفران والسُـكر المصري ، وكأنّ إكثاره منهما كان السبب في مرض السكر ، وبسبب هداياي له يشرع في محاباتي ، ويـهديني طبعة بماء الذهب من الموطأ ، ويخفض جناحه لي ، حتى أني لأعجب : أين ذهبت فورات غضبه على تلامذته ، وتعيـيـره لفاضل منهم أنه من روّاد دار قُدامة بسوق المدينة ، حيث مجتمع مُلاعبي الطيور ؟ ! وكأني على مدى صلتي به تعتريني رهبة أن ينسبني إلى دار قدامة آخر ببغداد ، أو إلى سوق الغزل تحت منارة مسجد الخلفاء القديم حيث اجتماع أصحاب الطير والـحَمام ، ولكنّ أخلاق الجنة غير أخلاق الدنيا ، وتمر تلمذتي له بسلام .
إنما مكوثي الأطول ، وانفعالي الأعمق : يكون حين أرجع من جولة لي في الأرباض الغربية ، وأنا على مُهري الأسود ، فأجد أحمد بن حنبل ينتظرني عند مَدخل بستاني ، على عادته الجميلة في التعرف والمبادأة والتواضع ، وكأن الشافعي هو الذي أسَرّ له بخبري وعنواني ، فاستعجل ولم يُعوّل على منهجي المزدحم وخُطتي المتأنية ، فملكني حياء أمام نور صدق تبعث به أسارير وجهه الكريم ، ثم استرسلت ، وانطلق مني سيل الأسئلة ، عن محنته وصبره ووعيه وصفاء عقيدته وتمييزه للبدعة ، فروى لي دقائق أخباره ، وأخبار أصحابه وبطولاتهم معه ، وطلب منهم أن يصحبوه في زياراته الأخرى لي ، فعرفني بهم ، وكان يوماً مشهوداً لما فاجأني بالبطل الواعي والثائر الطموح وركن الدفاع بالسلاح عن السُنـّة الغراء تلميذه وشيخ البخاري أحمد بن نصر بن سيف الخزاعي الشهيد ، فتلعثمت أمامه ، وطفقتُ أتمسح به وأمد يدي على صدره ومنكبه ورأسه ، عسى أن تسري إليّ منه عدوى الخير ، لذلك لزمتُه دهراً بعد أن روى لي الإمام أحمد مسنده وتفاريع مذهبه ، واشتقت في الجنة إلى التأليف أيضاً ، لا السماع والرواية فقط ، فاخترت أن أكتب تجربته الفريدة في ظلال الرقابة الحنبلية .
فلما طبعته مؤسسة الرسالة في الجنة ، واعتنى الأستاذ رضوان دعبول بإخراجه : صرت أزور الشهداء وأهديهم الكتاب ، فمن ثمّ رآه الأبرار في أيادي عمر محمود و إياد العزي و عمر حوران و محمود الهاشمي وأخته ميسون الهاشمية و رعد الدليمي ورافع رايـة البـصرة يوسف الحسّان وعميد الفرات حبيب الراوي ومثال البراءة جبار كاظم الشمري ، والنبيل بن النبيل ليث اسماعيل الراوي، ثم شاع من بعدهم في أيادي شهداء فلسطين ، وشهداء شعوب الأمة الإسلامية ، وعلى مدى الأجيال العديدة ، وتأسس مذهب الجهاد الواعي ، وتأسست شروحه الجلية التي أدلى بها شهيد إيران ناصر سبحاني .
وهؤلاء الرهط الذين أنتسب لهم : تتيح قصصهم أن أمشي فخوراً ، بارز الصدر ، مرفوع الرأس ، أثناء جولاتي على ألفٍ من أبناء الأجيال الأخيرة من الأمة حوتهم منهجية حركتي في الجنة ، من بين قادة الدعوة الإسلامية ، وزعماء الجهاد ، وكبار الفقهاء ، والمتبرعين بالأموال ، وأصحاب القلم ، والشعراء .
آنذاك ، وعند هذه المرحلة المتقدمة يكون استـئذاني لزيـارة خير خلق الله كُلهمِ ، وسيد سادات العرب والعجم ، مولى الثقلين ، نبينا مُحمّد صلى الله عليه وسلم ، مَن حسُنت جميع خِصاله ، وكشف الدجى بـِجَـماله ، عَطّر اللهُ ذكره الكريم ، بِعطرٍ شذيٍ من صلاةٍ وتسليم .
وليست هي قلة أدب أن أجعل زيارته بعد زيارة أمته ، بل لأن المقام يقتضي أن أتفقه وأتعلم وأتأدب قبل المثول أمام حضرته ، وأن لا يكون مثولي مثول جاهل ، فكانت تلك الجولات العلمية ، وفي المنهج أن لا اُثقل عليه ، وأن أعرف قدْر نفسي ، فلا أطيل الحوار معه ، ولكن أطلب منه أن يدعو الله أن يأذن لملائكته الكرام أن يعرضوا علي تسجيلات مصورة لسيرته الشريفة بمثل تصوير الفيديو ، ولكن بأبعاد ثلاثة ، أرى فيها وقائع أيامه ومعاركه وصَلاته وهجرته ، بل وطفولته وأيام شبابه ، فإذا كان البشر قد اهتدوا للفيديو ، فمن باب أولى أن يحوز الملائكة شيئاً أدق وأرقى نرى من خلاله كل التاريخ .
لذلك سأطلب منه أن يدعو الله أن يأذن للملائكة أن يروني تسجيلات متصلة على مدى آلاف السنين ، لنزول آدم عليه السلام وحواء إلى الأرض ، وذرياتهم الأولى قابيل وهابيل ، وتوالي الأجيال ، والنبوات الأولى والأقوام ، ونوح والذين معه ، وإبراهيم عليه السلام وهجرته وأولاده، وأنبياء وملوك بني إسرائيل إلى المسيح بن مريم وتصوير معجزاته ، ورفعه ، والكيد الذي تعرّض له ، وبقايا الحنيفية في العرب ، حتى قبيل بعثة النبي مُحمّد صلى الله عليه وسلم ، كل ذلك وخلال ألوف سنين من استطراد الخلود أرى التاريخ القديم وسير الأنبياء دقيقة بعد دقيقة ، بالأبعاد الثلاثة ، كأني أشاهد المشاهد رأى العين .
فكأني وأنا أشكر الله وأشكر النبي صلى الله عليه وسلم على إجابة رغبتي الإيجابية : ألمح الحسن والحسين رضي الله عنهما يخرجان من وراء ظهره الشريف ، فأطير من الفرح ، واُعانق وألثم الأيادي والأكتاف ، ومنعني الحياء من جهر بالسلام على فاطمة الزهراء في داخل البيت ، ومعها نساء النبي وبقية بناته ، رضي الله عنهن ، فأومأت وخفضت الصوت وألجمني الأدب .
فلما ذقت طعم وحلاوة رؤية التاريخ الحقيقي غير مزور ولا مبتور الخبر : أغراني الأمر فرجوت النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي عند الله تعالى أن يجدد أمره للملائكة الكرام أن يُروني سبع مسلسلات طويلة من الفيديو المجسم على مدى ألوف السنين :
الأول : أن يجتمع الطبري وابن خلدون والخطيب البغدادي وابن العديم والجبرتي ، في مائة من المؤرخين الذين أرخوا التاريخ الإسلامي ، وأنا بينهم ، فنرى معاً وبتعليقات منهم كل تاريخنا المشرف ، وأخبار خلفاء بني أمية وبني العباس ، ومن بعدهم من العثمانيـين والغزنويـين ، ونـَمرُ بصلاح الدين الأيوبي ، وألب أرسلان ، وفتح القسطنطينية ، وفتح الهند ، والاندفاع نـحو الصين ، ومحنة الأندلس ، وجهاد الشيخ شامل للروس في القوقاس ، وثورات الجزائر ، وبطولات عمر المختار ، ومأثرة الأفغان ، والصياغة العراقية الجديدة لمذهب نـقـض العولمة .
والمسلسل الثاني : أرى فيه تاريخ البشرية ، والحضارات ، والمدنيات ، وحوادث بابل ونينوى ، وأثينا وروما ، وأخبار الصين ، والفراعنة ، والإنسان القديم ، ومعيشته وصيده وحياته الأولى في الغابات والجبال ، وفي العصر الجليدي ، وأخبار عاد وثمود ، والعرب البائدة ، وحِمْـيَر وسد مأرب وسيل العرم ، وأجيالَ أخرى نجهل خبرها .
والثالث : أن اسمع للفلاسفة يتحدثون بصواب وخطأ ، وكيف أن الملائكة تقول للمخلط منهم والملحد : اخسأ فلن تعدو قدْرَك ، وهوميروس ، وهيرودوتس ، وشعراء الأمم ، وخطبائها ، وكـتُـابها ، ومتاهات أفلاطون وأرسطو ، وتميّز سقراط عنهما وقربه من التوحيد ، ونشأة الدول الحديثة ، والخطط والمنهجيات ، والصراع الاستعماري ، والثورات التحررية ، واكتـشاف أميركا ، وتطورها ، والنهضة الصناعية ، والمخترعات ، ونابليون ، والحربين العالميتين ، وقيام إسرائيل ، ودقائق الحياة المعاصرة .
والرابع : أن تريني الملائكة عجيب خلق الله للحيوان والنبات والجماد ، والأكوان والمجرّات والشموس والكواكب ، وكيف بدأ الخلق، وكيف حصل التطور ، وانتقل معهم إلى الذرة والإلكترونات والبروتونات وتكوين العناصر تصاعدياً وفق الجدول الدوري ، والاتحاد الجزيئي ، والحقيقة الجسيمية والموجية للضوء ، وانطلاق الفوتونات ، والكمّات ، وأشكال الطاقة ، وارتيابات هايزنبرغ ، ونسبية اينشتاين ، فأكون على بيّنة من العلم الحقيقي وتركيبات المواد ، ثم إني اُحب أن تعلمني الملائكة الرياضيات المعقدة المتقدمة ، فإني أهواها ، وحرمتني منها السياسة ومعالجة قضايا الأمة ومشاكلها ، وأن يأذن الله بإرسال ماكس بلانك الألماني إليّ ليعلمني ويشرح لي كيف اكتشف الثابت حين رصد سيل الفوتونات ، وأن يرسل لي بعده ألف عالم أضاف الواحد منهم اكتشافاً علمياً إلى الرصيد الإنساني ، فاسمع لشرحهم : كيف فعلوا ذلك ؟
والخامس : أن يُنـادى في الجنة أن الله أذن لعباده أن يسـتأنفوا سوق عكاظ ، فأرى واسمع أصحاب المعلقات العشر يتغنون بها ، ويشرحون لنا لغتها ، وأريد أن أطيل محاورتي لعنترة ، وان يشرح لي : ويكَ عنترُ: أقْدِمِ !! ثم شعراء الجاهلية جميعاً ، وشعراء صدر الإسلام ، والبحتري ، والمتنبي ، في ألف شاعر منهم حافظ الشيرازي ، وسعدي الشيرازي ، نزولاً إلى البارودي وشوقي وإقبال وطبقات المعاصرين ، والأميري السوري ، ووليد الأعظمي العراقي، وآل خليفة الجزائري، ونبيل إيران أحمد مفتي زادة في روحانياته وآهاته اللواعج .
والسادسة : خاصة عائـلية ، ولغيري أن يطلب خصوصية مثلها ، وفيها تـريني الملائكة آبائي وأجدادي وجدّاتي ، جيلاً بعد جيل ، إلى يوم البشرية القديم وأولاد آدم ، صورهم ، وأخلاقهم ، وبيوتهم ، وحفلات أعراسهم ، وأين عاشوا ، وفي أي سنة ، ومَن كان لهم من الأبناء والبنات ، فاصعد إلى جدّي العاشر علي بك العِزي المعاصر للسلطان العثماني مراد الرابع ، والذي عاونه في تحرير بغداد من الحكم الصفوي ، وأصعد أكثر لأعرف عز بن يحيى بن مصلح الذي ننتمي له ، وكان عُبادياً ، ثم إلى عامر بن صعصعة جده الأعلى ، ثم إلى مضر وعدنان ، وأريد أن أزور كل جدّ وجدة أياماً ، وان تطبخ لي الواحدة تلو الأخرى البامية ، وتخبز لي ، وتـثرد لي ، و الباقلاء والطعام البغدادي .
أما المسلسل السابع : فهو سر أكتمه ولا أبوح به ، فاستعمل فراستك ، إنما هو جدٌ لا هزل ، وتعرفه بالذكاء والإخلاص معاً ، لا الذكاء فقط ، وإذا كنتَ على الدرب فما أقرب أن تميزه .
والمشكلة أن الحياة الأخروية خالدة ، وهذه المخالطات والزيارات وجلسات التعلم والدرس ورؤية الفيديو الثلاثي الأبعاد تستغرق عشرات ألوف السنين ، إنما : ماذا بعد ذلك ؟ هل أكرر واُعيد مثل مناهج الاُسر الدعوية ؟ أم أرجع عامياً بعد دهر الاستعلاء العلمي والهِمَمي فأطلب أطايب طعام الجنة ومزيد لذاتٍ وأنزل عن مستوى التحليق السامي ؟
بلى : قد يكون استعراض الفن الناجح المملوء بالمعنى أو مسحة الجمال سبباً لاستمتاعٍ منهجيٍ إبداعي آخر لألوفٍ من سنوات الخلود ، ولكن ماذا بعد ؟
كما علمتكم طريق تطوير الحياة في الجنة ، فعلموني وأفتوني أيها الأخوة !!
وكنتُ أظن أن هذا التمني الواعي والتميز النوعيفي دعاء التنعم الأخروي إنما هو سبق لي ، حتى رأيت خبراً طريفاً لبعض رجال شنقيط ، فعلمت أني مسبوق وأنه حاز الامتياز قبلي ، فقد كان اْمْحمد بن محمد اليعقوبي المعروف بابن الطلب شاعراً مُجيداً على طريقة الأولين ، فصنع قصيدة فيها ذكر الصحراء والبداوة والصيد والسهام ، فرآها في نفسه أعلى من قصيدة الصحابي الشماخ بن ضرار الغطفاني في ذلك ، وقال يوماً بعدما نظم جيميته وأبرزها للناس : ( أرجو من الله أن أقعد أنا والشمّاخ بن ضرار في نادٍ من أهل الجنة ، وننشد بين أيديهم قصيدتـيـنا ، لنعلم أيهم أحسن !! ).
والشماخ هو صاحب القوس العذراء التي باعها فندم وقال فيها شعراً طوّره محمود محمد شاكر إلى ملحمة شعرية رائعة .
ومرة أخرى عارض ابن الطلب قصيدة للصحابي حُميد بن ثور الهلالي فقال : ( أرجو من الله أني أنا وحُميد بن ثور ننشد قصيدتينا في نادٍ من أهل الجنة ، فيحكمون بيننا ) .
وبذلك سبقني رحمه الله ، لكني علمت من ذلك أني على طريقة راشدة في هذا التمني الجاد ، وان تلك السابقة إنما هي شهادة تـُنْبــِي عن أصالة رغبتي وطريقتي الإبداعية في تطوير آفاق الحياة في الجنان .
ومُرادنا إيجاب كُلّه ، ولكن كسولاً يريد أن ينحرف به إلى سلب ، فيزعم أنه سوف ينـتـظر الجنة ليقرأ العلم الشرعي ويجوب ويطرق مجالس الأئمة ، تماشياً مع هذه المنهجية الإبداعية وتصديقاً لها ، وقد أخطأ وتوهَّم وكبح به ظنهُ وتأويله ، فإن تعلّمه في الدنيا حدود الحلال والحرام ، وصفاء العقيدة له من البدع ، هو الذي يعصمه ويُدخله الجنة ، ولا تكفيه هِمّته والنوايا إن لم يعضدها صواب المذهب ، فلا تأجيل للعلم ، بل هو واجب فوري ، وعلوم أيام الجنـّة تحليق ، ومُـتعة ، وغرام ، وشُغل خير ، وجنس من النعيم المعنوي الذي يعلو على النعيم المادي .
فليحفظ هُمامٌ إيجاب الإبداع ... وليحذر التضيـيع
No comments:
Post a Comment