للشهيد / سيد قطب من كتابه : معالم في الطريق
العبودية لله وحده هي شطر الركن الأول في العقيدة الإسلامية المتمثل في شهادة : أن لا إله إلا الله . والتلقي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كيفية هذه العبودية - هو شطرها الثاني ، المتمثل في شهادة أن محمدا رسول الله .
والقلب المؤمن المسلم هو الذي تتمثل فيه هذه العبودية بشطريها ، لأن كل ما بعدها من مقومات الإيمان ، وأركان الإسلام ، إنما هو مقتضى لها . فالإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، وكذلك الصلاة والزكاة والصيام والحج ، ثم الحدود والتعازير والحل والحرمة والمعاملات والتشريعات والتوجيهات الإسلامية . . . إنما تقوم كلها على قاعدة العبودية لله وحده ، كما أن المرجع فيها كلها هو ما بلغه لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه .
والمجتمع المسلم هو الذي تتمثل فيه تلك القاعدة ومقتضايتها جميعا لأنه بغير تمثل تلك القاعدة ومقتضايتها فيه لا يكون مسلما .
ومن ثم تصبح شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله قاعدة لمنهج كامل تقوم عليه حياة الأمة المسلمة بحذافيرها ، فلا تقوم هذه الحياة قبل أن تقوم هذه القاعدة ، كما أنها لا تكون إسلامية إذا قامت على غير هذه القاعدة ، أو قامت على قاعدة أخرى معها ، أو عدة قواعد أجنبية عنها :
{ إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم } [ يوسف : 40]
{ ومن يطع الرسول فقد أطاع الله } [ النساء : 80 ]
هذا التقرير الموجز المطلق الحاسم يفيدنا في تحديد كلمة الفصل في قضايا أساسية في حقيقة هذا الدين . وفي حركته الواقعية كذلك :
إنه يفيدنا أولا في تحديد طبيعة المجتمع المسلم .
ويفيدنا ثانيا في تحديد منهج المجتمع المسلم .
ويفيدنا ثالثا في تحديد منهج الإسلام في مواجهة المجتمعات الجاهلية .
ويفيدنا رابعا في تحديد منهج الإسلام في مواجهة واقع الحياة البشرية .
وهي قضايا أساسية بالغة الخطورة في منهج الحركة الإسلامية قديما وحديثا .
إن السمة الأولى المميزة لطبيعة المجتمع المسلم هي أن هذا المجتمع يقوم على قاعدة العبودية لله وحده في أمره كله . . هذه العبودية التي تمثلها وتكيفها شهادة لا إله إلا الله . وأن محمدا رسول الله .
وتتمثل هذه العبودية في التصور الاعتقادي ، كما تتمثل في الشعائر التعبدية . كما تتمثل في الشرائع القانونية سواء .
فليس عبدا لله من لا يعتقد بوحدانية الله سبحانه :
{ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السموات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون ؟ } .. [ النحل : 51-52]
ليس عبدا لله وحده من يتقدم بالشعائر التعبدية لأحد غير الله - معه أو من دونه - :
{ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } [ الأنعام : 162 - 163]
ليس عبدا لله وحده من يتلقى الشرائع القانونية من أحد سوى الله ، عن الطريق الذي بلغنا الله به ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم :
{ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [ الشورى : 21]
{ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7]
هذا هو المجتمع المسلم . المجتمع الذي تتمثل فيه العبودية لله وحده في معتقدات أفراده وتصوراتهم ، كما تتمثل في شعائرهم وعباداتهم ، كما تتمثل في نظامهم الجماعي وتشريعاتهم . . وأيما جانب من هذه الجوانب تخلف عن الوجود فقد تخلف الإسلام فقد تخلف الإسلام نفسه عن الوجود ، لتخلف ركنه الأول ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
ولقد قلنا إن العبودية لله تتمثل في التصور الاعتقادي . . فيحسن أن نقول ما هو التصور الاعتقادي الإسلامي . . إنه التصور الذي ينشأ في الإدراك البشري من تلقيه لحقائق العقيدة من مصدرها الرباني . والذي يتكيف به الإنسان في إدراكه لحقيقة ربه . ولحقيقة الكون الذي يعيش فيه - غيبه وشهوده - ولحقيقة الحياة التي ينتسب إليها - غيبها وشهودها - ولحقيقة نفسه . . أي لحقيقة الإنسان ذاته . . ثم يكيف على أساسه تعامله مع هذه الحقائق جميعا . تعامله مع ربه تعاملا تتمثل فيه عبوديته لله وحده ، وتعامله مع الكون ونواميسه ومع الأحياء وعوالمها ، ومع أفراد النوع البشري وتشكيلاته تعاملا يستمد أصوله من دين الله - كما بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم - تحقيقا لعبوديته لله وحده في هذا التعامل . . وهو بهذه الصورة يشمل نشاط الحياة كله .
فإذا تقرر أن هذا هو المجتمع المسلم ، فكيف ينشأ هذا المجتمع ؟ ما منهج هذه النشأة ؟ إن هذا المجتمع لا يقوم حتى تنشا جماعة من الناس تقرر أن عبوديتها الكاملة لله وحده ، وأنها لا تدين بالعبودية لغير الله . . لا تدين بالعبودية لغير الله في الاعتقاد والتصور ، ولا تدين لغير الله في العبادات والشعائر . . ولا تدين بالعبودية لغير الله في النظام والشرائع . . ثم تأخذ بالفعل في تنظيم حياتها كلها على أساس هذه العبودية الخالصة . . وتنقي شعائرها من التوجه بها لأحد غير الله - معه أو دونه - وتنقي شرائعها من التلقي عن أحد غير الله - معه أو من دونه - .
عندئذ - وعندئذ فقط - تكون هذه الجماعة مسلمة ، ويكون هذا المجتمع الذي أقامته مسلما كذلك . . فأما قبل أن يقرر ناس من الناس إخلاص عبوديتهم لله - على النحو الذي تقدم - فإنهم لا يكونون مسلمين . . وأما قبل أن ينظموا حياتهم على هذا الأساس فلا يكون مجتمعهم مسلما . . ذلك أن القاعدة الأولى التي يقوم عليها الإسلام ، والتي يقوم عليها المجتمع المسلم - وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - لم تقم بشطريها . .
وإذن فإنه قبل التفكير في إقامة نظام مجتمع إسلامي ، وإقامة مجتمع مسلم على أساس هذا النظام . . ينبغي أن يتجه الاهتمام أولا إلى تخليص ضمائر الأفراد من العبودية لغير الله - في أي صورة من صورها التي أسلفنا - وأن يجتمع الأفراد الذين تخلص ضمائرهم من العبودية لغير الله في جماعة مسلمة . . وهذه الجماعة التي خلصت ضمائر أفرادها من العبودية لغير الله . اعتقادا وعبادة وشريعة . هي التي ينشأ منها المجتمع المسلم ، وينظم إليها من يريد أن يعيش في هذا المجتمع بعقيدته وعبادته وشريعته التي تتمثل فيها العبودية لله وحده . . أو بتعبير آخر تتمثل فيها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله .
وهكذا كانت نشأة الجماعة المسلمة الأولى التي أقامت المجتمع المسلم الأول . . وهكذا تكون نشأة كل جماعة مسلمة ، وهكذا يقوم كل مجتمع مسلم .
إن المجتمع المسلم إنما ينشأ من انتقال أفراد ومجموعات من الناس من العبودية لغير الله - معه ـو من دونه - إلى العبودية لله وحده بلا شريك له ، ثم من تقرير هذه المجموعات أنى تقيم نظام حياتها على أساس هذه العبودية . . وعندئذ يتم ميلاد جديد لمجتمع جديد ، مشتق من المجتمع الجاهلي القديم ، ومواجه له بعقيدة جديدة ، ونظام للحياة جديد ، يقوم على أساس هذه العقيدة ، وتتمثل فيه قاعدة الإسلام الأولى بشطريه . . شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . .
وقد ينضم المجتمع الجاهلي القديم بكامله إلى المجتمع الإسلامي الجديد وقد لا ينضم ، كما أنه قد يهادن المجتمع الإسلامي او يحاربه . وإن كانت السنة قد جرت بأن يشن المجتمع الجاهلي حربا لا هوادة فيها . سواء على طلائع هذا المجتمع في مرحلة نشوئه - وهو أفراد أو مجموعات - أو على هذا المجتمع نفسه بعد قيامه فعلا - وهو ما حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية منذ نوح عليه السلام إلى محمد عليه الصلاة والسلام ، بغير استثناء .
وطبيعي أن المجتمع المسلم الجديد لا ينشأ ، ولا يتقرر وجوده إلا إذا بلغ درجة من القوة يواجه بها ضغط المجتمع الجاهلي القديم ، قوة الاعتقاد والتصور ، وقوة الخلق والبناء النفسي ، وقوة التنظيم والبناء الجماعي ، وسائر أنواع القوة التي يواجه بها ضغط المجتمع الجاهلي ويتغلب عليه ، أو على الأقل يصمد له !